لم يعد مؤلمٌ أن ينهارَ الوطنُ بقدر ما هو مؤلمٌ أن يصبح سخريةً في عيونِ أبنائِه، أن تصبح كلُّ الأوطان مأمَناً و مأوىً عداه.
لم نعد نسمَعُ قصيدةً تروي أمجادَهُ ، لم نعد نعلمُ أتراحَهُ من أفراحِه ، لم يعد محجّةَ الشُّعراء و قِبلةَ الأُدَباء ، شحّت قريحةُ القلمِ بعد أن فاضت مآسيه ، جفَّتِ محابِرُ المديحِ أمامَ ذلك السّيلُ من القذارةِ الذي أخرجته نورما من تحت رُقَعِ الفساد الهشّة ،
أَتَتْ نورما حاملةً معها خيراتِ الطبيعة من ماءٍ و ثلوجْ ، و بدلاً من أن يسود الفرح بقدومها ، عُمِيَت الأعين بمشاهد المآسي ، و أمتلأت القلوب سواداً على أطفالٍ ازرَقّت شفاهُها سقيعاً و شُلَّت أطرافُها زمهريراً ، و زُهِقَت أرواحُها الغضّة ، صُعَّدت مُثلَّجةً نحو السَّمَاء حيث البردُ سلاماً و العدلُ سيّدا .
أين نحن منّك أيّها الوطن ، و أين أنت مِنَّا ، أعذرنا لعلّنا لن ندرك معنى فقدانك حتّى نصبح مشرّدين في بقاع الأرض نلهث وراء وطنٍ آخر لنستيقظ في آخر المسار منفيين ، غرباء عنك بقدر ما نحن غرباء فيك ، أعذرنا لم نكن ندري بأنّنا عالقون في طيِّ الغفلة ، نلهثُ وراء لقمة العيش التي سُلِبَت من أفواهنا لتوزّعَ هدايا في جيوب الزّعماء .
عذراً أيّها الوطن المغدور ، لست أنت من يجب أن يصبح مهزلة الكُتّاب و سخرية الأقلام ، لست أنت يا لبنان من يستحقُّ أن تُلصقَ عبارات الإستهزاء باسمك العظيم ، لم تعد صدورنا تتحمّل نواهلَ خناجر الذمِّ و ضحكات أبناء المغرب و المشرق على مآسيك ، لم نعد قادرين على تحمّل عبء خسارة حقوقنا و أحلامنا لتضافَ إليهم مُلِمَّةَ خسارتك ،
لا أيّها المتفرّجون على لبناننا المنكوب ، إنه ليس ذنبه ، إنّه قطعةٌ من السَّمَاء ، جنّةٌ مجّدها التّاريخ ، روايةٌ تحكي مهدَ الحضارات ، لا تسخروا من لبناننا ،
فالعلّةُ ليست في أرضِه الخضراء و سمائه الزّرقاء و مياهه العذباء ، العلّةُ برُعاتِه و أسياده ، العلّةُ بتلك الرّزمةِ من البشر التي نصّبتها علينا أيادٍ خارجيةٍ ناقمة و سمّتهم زُعماء ، ثمّ أورثَتهم إيّاه سلعةً يتقاذفونها بينهم تحت مُسَمّى صفقات و تقسيمات و محاصصات .
كم هي فرحةُ تلك الوصايات الخارجية عارمة عندما تنظر بعين الشّماتة إلى من كان سويسرا الشّرق و كأنّها تُخبّئ تحت تلك البسمة المنتصفة عبارةٌ تقول : " لقد نِلنا منك أيّها المتباهي بجمالك و سياحتك و ثقافتك و فنّك ، و أصبحت مُجرّدُ مزبلةٍ مجبولة بركام الفتنة و بقايا الفِكرِ المتعفِّن ، نرمي بها فضلاتنا و نمتص خيراتها و نتحكّم بقادَتِها كالدُّمى "....
🖊بقلم: كاملة رعد .