2016/11/15

صناعة الأزمات وأسرار التفاوض" للمؤلف الكاتب العميد الركن صلاح جانبين،

صناعة الأزمات وأسرار التفاوض" لمؤلفه العميد الركن صلاح جانبين،

تقديم الكتاب

يسدّ هذا الكتاب الذي حمل عنوان "صناعة الأزمات وأسرار التفاوض" لمؤلفه العميد الركن صلاح جانبين، ثغرةً كبيرةً في مكتبتنا اللبنانية والعربية التي تبقى دائماً في حاجة إلى مصنّفات علمية، تجمع بين دفتيها البعدين النظري والتطبيقي لمسألة تتطلّب التصدي لها بمثل هذه الإحاطة.
ما بين مقدمة وخاتمة، يعرض الكتاب، في 16 عنواناً رئيساً و58 عنواناً فرعياً، آليات التفاوض وتكتيكاته، والخلفيات والأبعاد المتعدّدة الهدف والأسباب، والدوافع وراء صناعة الأزمات واستيلادها، بالارتكاز إلى أمثلةٍ ووقوعاتٍ جرت عبر مراحل التاريخ، معزّزة بالوثائق والأدلة. يُعزّز الملحق صدقية البحث بإيراده النصوص الرسمية، وشبه الرسمية، والمعلومات الدقيقة لمعاهدات واتفاقات وتفاهمات طاولت كبريات الأزمات التي وقعت بين دول وشعوب سواء على أساس ديني، مذهبي، عرقي، سياسي واقتصادي، أو خلاف حدودي برّي ومائي التي لم تبلغ خواتيمها إلاّ بإراقة الكثير من الدم، وحلول الخراب والدمار، وشيوع الفقر والتشرّد، والتسبّب بهجراتٍ قسرية غيّرت في ديموغرافية الدول المستهدفة، وبدّلت قواعد العلاقات الإنسانية والاجتماعية، مخلّفة الندوب التي استغرق الشفاء منها، ردحاً طويلاً من الزمن.
قارب الكتاب الموضوعات الجريئة بروح علمية بعيداً من الفرض، ولم يجنح إلى ما يناقض هذه الروح التي يجب أن تطبع كل بحثٍ رصين. وقد سيق بأسلوب يسهل فهمه، يتميّز بالذهاب مباشرة إلى المعنى المقصود، من دون اللجوء إلى التنميق والاستدارات اللفظية، لأنَّ التفاوض أصبح فناً، بل علماً قائماً في ذاته، وباب الاجتهاد فيه محكوم بقوانين وضعية، ومراجع تاريخية موثوق بها، لا تخلو من تشابه وتماثل مع أزمات زمننا هذا. وبالتالي، فإنه لا ينطلق من عدم، من دون إنكار ما يجب أن يتحصن به المفاوضون من ذكاء وحنكة وثقافة وقدرة على ابتكار المخارج والحلول. فالانسان هو الأساس في هذا الإطار، لأنه الأقدر على التعاطي مع القوانين والأعراف، وتطويعها على نحو يؤدي إلى فتح الآفاق أمام النّيات الحسنة، وإنتاج التسويات التي يسعى إليها الوسطاء وسعاة الخير، ووأد الأزمات، أو الانقياد إلى نوازع الشر التي غالباً ما تكون البوابة الإلزامية للتوتر.
إنَّ خبرتي في مجمل عمليات التفاوض الذي اضطلعت بأعبائها ولا أزال، تؤكد بأنَّ التفاوض، كما صناعة الأزمات، له مفاتيحه السرية، التي ينبغي امتلاكها، وإجادة استخدامها، لكسر الأغلال، وتبديد الآفاق الملبدة والمستغلقة. وإن الخوض في هذا المضمار ليس نزهة، بل هو مجازفة حقيقية دونها محاذير وأخطار. ويكفي خطأ واحد، او تبدّل معطى على الارض، او تقلب مزاج ان يطيح بأي تقدم قد يتحقق، ويعيد الامور الى النقطة الصفر. هذا اذا لم يهدم ما بُذل، مسببا المزيد من الكوارث والمآسي. 
يوفّرُ الكتاب معلومات دقيقة مقرونةً بالوثائق الرسمية، ويضيءُ على تجارب وتقنيات، مفصّلة أو مختصرة، يمكن الإفادة والاعتبار منها، لمحاذرة الوقوع في مطبات تُفضي إلى نتائج عكسية، ويشكّلُ مرجعاً موثوقاً به لا بد من العودة إليه في عمليات التحكيم والتفاوض، خصوصاً أنَّ للبنان حصةً فيه، سواء في الشق النظري، حيث يتوقف عند حالات معينة في تاريخه، أو في الوثائق التي نشرها وتتناول: اتفاق القاهرة (1969)، اتفاق الطائف (1989)، اتفاق الدفاع والامن اللبناني - السوري (1991)، تفاهم نيسان (1996)، اتفاق الدوحة (2008).
لا يغفل الكتاب التجارب العالمية والإقليمية، خصوصاً تلك التي شهدها القرن الغابر، والعشرية الأولى من القرن الحالي، ليعزّز بحثه، ويتوصل إلى استنتاجات صائبة، ويستخلص الإرشادات، ويحدّد النماذج الشخصية للمفاوض وميزاته، وخصائصه العملية التفاوضية، ومتطلباتها وشروطها الرئيسية وعناصرها، إضافةً إلى استراتيجيات التفاوض وأسسها وتكتيكاتها، ومتطلباتها. كما لا يغفل أيضاً عن التوغل في  التفاصيل، يورد أدقّها، خصوصاً آلية الوصول إلى الاتفاق الختامي وتوقيعه، ويعرض للنظريات الخاصة بصناعة الأزمات وإدارة التفاوض بإيجاز يغني عن الإطالة بالأسلوب المباشر نفسه الذي يتّصف بالسلاسة والسهولة. ويعرض نماذج طاولات المفاوضات، وهي: الطاولة المربعة، الطاولة المستديرة، الطاولة المستطيلة، الطاولة المثلثة. وفي ذلك دليل على شغف في اشباع المضمون درساً وتدقيقاً، بحيث يأتي شاملاً، مستجيباً لكل ما يخطر في بال متابع مهتم بصناعة الأزمات وأسرار التفاوض.
حصّن المؤلف كتابه بعشرات المراجع نُعدّد منها: القرآن الكريم، الكتاب المقدّس، نهج البلاغة و7 معاجم وموسوعات، و16 مصنّفاً باللغتين الإنكليزية والفرنسية، و48 باللغة العربية، و19 دراسة ورسالة أُطروحة جامعية، و3 خطابات ومقابلات، و31 صحيفة ومجلة ووكالة أنباء، و41 موقع إنترنت، وسخّرها لخدمة الهدف الأساس والمتوخى من مؤلفه، وتعزيزاً لرصانته وموضوعيته، وحياده، وعلميته.
كتاب يُقرأ من مقدمته إلى خاتمته، من دون أن يداخلك ملل، واضح، وكأنك أمام عملية حسابية مبسطة، غير معقّدة. إنه أقرب إلى المنطق الأكاديمي الذي لا يتوخى تحقيق غاية سياسية مباشرة أو غير مباشرة، وفي مقدور أي كان أن يقتنيه ويُقبل عليه، لأنه يُضيء على قضايا وزوايا وخبايا، يتشوّق المثقف والباحث، القانوني والمحكّمون الدوليّون والاقليميون والمحلّيون إلى معرفتها، والاغتناء بما توفره لهم من مادة دسمة تعينهم على تنمية مداركهم، والإفادة منها أيما إفادة في مواجهتهم لحالات يكون فيها اللجوء إلى التفاوض قدراً لا مفرَّ منه.
يستحق العميد صلاح جانبين التهنئة على هذا الكتاب القيّم، وأن يكون فاتحة لأبحاث متخصّصة، تضع اللبنات الأولى  لتشييد عمارة ثقافية علمية لبنانية عربية، تذهب في اتجاه عالم معرفي نادراً ما كان محطّ اهتمام كتُابنا وباحثينا.
وإلى مزيد من العطاء 
المدير العـــــام للأمـــــن العــــــام
اللــــــواء عبــــاس إبـــــراهيم



توطئة

إنَّ الأزمات في العالم، يُخطّط لها وتُرسم وتُخلق من قبل أصحاب القرار، ومن قبل أصحاب الشأن والمستفيدين منها، والذين لديهم المصلحة العليا الاستراتيجية في حدوثها، والتي تتجلى بالسيطرة ووضع اليد على مقوّمات العيش ومصادره، وتقاسم الثروات المتمثّلة بالمياه والمعادن والنفط والغاز والفحم الحجري وكل ما له صلة بالثروة والسلطة والمال. 
إنَّ السلاح الحربي الفتاك هو الأسلوب الأفعل للسيطرة العسكرية على مقدّرات الشعوب المالية والاقتصادية والسياسية.
لإعمار الدول الفقيرة، أو لإعادة بنائها من جديد، يجب العمل على تدميرها بشكل ممنهج، وإفقار شعوبها وتفتيت مجتمعاتها، وضرب بنيانها، لتكون أسيرة لغيرها وحتى تأخذ الدورة الاقتصادية مجالها الطبيعي في العالم.  
إنَّ السلاح القديم التي تملكه أي دولة، لا يمكن تبديله أو تغييره أو شراؤه، إلاَّ بإيجاد نزاع وحرب في تلك الدولة أو بينها وبين جاراتها من الدول حتى الانتهاء من فعاليته وجدواه.
إن البشرية بشكل عام والدول العربية وإسرائيل بشكل خاص، تدرك مخاطر النزاع المسلّح، بخاصة أن الأغلبية تستدين الأموال الطائلة من أجل التسلّح والإنفاق على التسليح، وأن السلاح مهما كان متطوراً لا يوفّر الأمن والآمان.
لقد انتهى القرن الماضي، قرن الانتماءات الثقافية والسياسية والتعدّدية( )، قرن الحروب وغلبة المحور العسكري على استخدام مهارة التفاوض، قرن المنتصر والقوة التي تحكم وتتقاسم الغنائم بين الحلفاء، وفرض شروطها على المهزوم، من خلال الاتفاقيات العسكرية المشهورة بين المعسكرات المتحاربة بكل جبروت وقوة .
فهل التفاوض والحوار والنقاش يبدأ بعد الأزمات ويكون مكملاً لها وينتهي بانتهائها، أو أن للحياة دورتها، تبدأ بالأزمات دائماً وتنتهي بالحوارات وتقاسم الحصص، ثم تعود الحروب والمشاكل من جديد، حتى نعمل دائماً في حلقة دائرية، ننعمُ بالاقتصاد وبالبناء بعد التهديم وبالسلم بعد الحرب وبالتصالح بعد النزاع؟  
وهل الضعيف قادر على التفاوض مع القوي، أو أنَّ الضعفاء لا مكان لهم على طاولة المفاوضات، والتفاوض يقتصر فقط على الأقوياء؟ 
وهل يمكننا أن ننجح بالمفاوضات إن لم تكن مقرونة بالقوة؟ وهل من يريد أن يربح في التفاوض والحوار ويحقق أهدافه ويستعيد ما خسره، يجب عليه أن يكون فعالاً على أرض الواقع، كما قال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قوله المأثور: " ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"؟! 
نقول والكل مدرك لذلك، بأن التعاون بين الثقافات على اختلافها، وتوحيد الجهود الدولية، يولّد تعايشاً سلمياً، أساسه السلام العادل والشامل والعيش الكريم الذي تطمح وتسعى إليه مجتمعاتنا.