2020/10/23

مديرة الشبكة العربية في تونس إِينَاسْ السَلاَّمِي : أعود إليكِ ..و لن أغادركِ للأبد ...





...و الآن ، هاقد عدتُ إليكِ من جديد

لقد مضت الثّورة لتُلقي جنينها في نهر الحياة الملوّث بالفقر و الأوجاع

و عدت أدراجي أحمل سلاحي المكسور و أجرّ حصاني الجريح و على ظهرهِ رميت أكياس الخيبة و الخذلان .. فلقد خسرنا المعركة يا حبيبتي ، و عبرالجبال الشامخات و من بين الغابات و المنحدرات الخطرة شققت طريقي .. لأعود إليكِ 

أعود جريحا و باكيا ، أجرّ أقدامي كمحكومٍ بالإعدام فعلى طول الطريقرأيت الكثير من الجثث لفقراء في عزّ الشّباب كانوا يحلمون بالأزهار والحبيبات و أمسيات على ضوء الشموع آآآه يا ملاكي لو تعلمين رعب أنيموت الفقير في ملابس رثّة و دون أن يعرف طعم الحبّ أو طعم العناق .. ودون أن يشبع يوما من الطعام و يركض في البراري سعيدا كالأولاد

فآفهميني إذن لأنّي مضيت للثورة و لم أسمع توسّلاتك عند الباب بأن لا ... و أن لا .. فإنّي أحبّك حدّ العتهِ و حدّ الشّطط و لأنّي أحبّكِ أحببتُ الفقراءو المساكين و المظلومين ، فلا يمكنني مطلقا أن أرقص معك على تنويعاتالبيانو لشوبان أو موزارت دون أن أبالي بصراخ الأطفال و آستغاثاتالنسوة خلف الوديان و الجبال

فمن أجل أن أحبّك كأعمق ما يكون الحبّ كان عليّ أن أحبّ فيكِ و من أجلككلّ البشر

و الآن ... أعبر الجبال الشامخات منهكا و حزينا .. لأعود إليكِ

سأحدّثك في ليالينا القادمة و نحن متكوّمين كقطّين بريئين بجانب موقدالنّار عن المعارك الخاسرة الّتي خضتها من أجل تحرير الإنسان منالشرور و الأوهام .. سأخبركِ عن الرصاص الّذي لا يرحم ، عن الرّضيعالّذي تكلّم قهرا حين ترنّحت أمّه و آستشهدت بقذيفة طائشة و هي بصددإرضاعهِ فآختلط حليب الحياة بدماء العدم .. فخرج في الشوارع يكلّمالبشر: أن أوقفوا الخراب .. أعيدوا أمّي و أوقفوا الخراب ..

لقد كان عمره بضع شهور .. و لقد رأيته يبكي كعجوز في الثمانين ، و منأجله يا حبيبتي قرّرت أن أواصل الحرب حدّ النّهاية .. كنت واثقا أنّهاستكون حربا خاسرة ككلّ الحروب التي خضتها سابقا ، فأنت تعلمين جيّداأنّ كلّ القضايا العادلة في عالمنا تنتهي بنا غالبا إلى حروب خاسرة .

و في الليالي الموحشة حيث رعب الإنتظار .. فكّرت بكِ

و في الخنادق المكتظّة بالخوف و الدّماء .. فكّرت بكِ

و عندما دفنت رفاق السّلاح و مسحت عن جبينهم عرق الأمل بالنّصر و عنشفاههم أغاني المجد و عن قلوبهم أسماء الحبيبات المنتظرات خلف التلال .. ساعتها أيضا فكّرت بكِ

و لذلك كلّه .. أشقّ الآن الجبال الشّامخات باكيا و نازفا كلّ دمي .. لأعودإليكِ

فأرجوكِ أن تفهميني : إنني أحبّك من عيناك و حتى أظافر أقدامك ، و لكنكان لابدّ لي و أن أمضي لأحارب ، فالحبّ يا ملاكي لا يكون حقيقيّا إلّا إذاعلّمنا حبّ كل المساكين و الحيارى و المستغيثين ، و هناك في هيجاء المعاركو بين الأشلاء و الدّماء كانت أصابعي على الزّناد و كان قلبي يمرح فيربيعكِ العامر بالفراشات و الأزهار .. و عندما مرّت بخيالي إبتسامتكالبريئة أدركت أنّ هذه الحرب لا بدّ و أن تنتهي فورا .. و أنّ الأبرياء الّذينتهاطلوا كالشّهد و السمسم و الياقوت من بين أسنانك الرائعة .. أولئكالأبرياء يجب أن يعيشوا في سلام و يمرحوا في الأرض التي خلقها اللهللجميع .. للأغنياء و الفقراء ، للمؤمنين و الملحدين .. عليهم جميعا أن يعيشوافي أمان يا ذات الإبتسامة الّتي يقطر منها الورد و الأحلام و الأبرياء

و لذلك كلّه .. قبلنا بآتفاق الهدنة المذلّ ... و أخذت حصاني الجريح و عبرالجبال الشامخات عدت إليكِ 

سأحدّثك في الليالي الباردة .. عن المشرّدين الذين عرفتهم ، عن الحيارىالذين قابلتهم ، عن الجياع للحنان و العطشاوات للحبّ و الرعاية .. فقدأدركت بعد كل تلك المعارك و الخسائر أنّ البشر لا يتقاتلون من أجل الغذاء والثروات و الأديان كما كنت أتصوّر .. إنّما هم يا حبيبتي يستَجْدُون الحنانبالرصاص و الحبّ بالمفخّخات و الكرامة بالقنابل و التفجيرات

لو أحبّوا و تمتّعوا بحبّ الآخرين لهم

لو فهموا الحبّ .. لو أوغلوا في شعابه و تنسّموا نسائمه

لو عرفوه حقّا .. لو تعلّموه منذ نعومة الأظافر لما آمتدّت أيديهم يوما للسلاح

صرت يا حبيبتي متشردا في عرض هذه البلاد ، أحمل حزني و أمضي نحوالغاب و نحو التلال

هربت من الليل و عتمته

هربت من النور و نشوته و جبت الشوارع و المدن و وقفت عند عازف الكمنجة

عازف يرتل حزنه بلحن سرمدي و الناس حوله ينشدون و يصفقون و لايلمحون الدمع بعينيه و لا يلمحون البؤس المخيم فوق تفاصيله .بين تراتيلاللحن عادت ذاكرتي تمشي أحيانا و تركض أحيانا و تسقط مرات و مراتكالحزن القادم من ثنايا الحنين ، حنيني لشيء ما

تركت عازف الكمنجة و رحلت ، رحلت لأني أريد الرحيل من حزني ، أريدالرحيل لأي شيء

و من أجل هذا كلّه .. أنا الآن مازلت خلف الجبال الشّامخات أجرّ حصانيالجريح عائدا إليكِ .. فآفتحي ذراعاك على بعد آلاف الأميال فإنّي سأراهمامن هنا فأنزع المسافات و الآفاق و أدخل في روحكِ لأعيش فيكِ ما تبقّى منالعمر

آفتحي ذراعاك .. و آنتظريني في السهول و الحقول .. فسأغادر المرتفعات والتلال .. و أعتزل الحروب و القتال .. لأتسلّل إليك و فيكِ .. كالرّضيع .. كالحلم .. كالقصيد .. و لن أغادركِ للأبد