السفير بلال المصري

مــــقــــدمـــة

إستغلت الأوساط المُتربصة بدافع من عداءها لمصر والسودان في الوقت الذي تتناقص فيه قوتهما بسبب حالتي عدم الإستقرار الداخلي بهما مُقترنة بتمزق شبكة علاقاتهما الخارجية , إستغلت هذه الأوساط إعادة إثارة القيادة (العسكرية) السودانية مُمثلة في رئيس المجلس السيادي الإنتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان لنزاع بلاده مع مصر علي السيادة علي مثلث حلايب لإشعال حالة حدودية أخري مُتصلة بحلايب لكنها خامدة لا حراك لها تُدعي بير طويل / أو جبل بارتازوجا كما سيرد لاحقاً , ففي كلمته بمناسبة العيد الـ66 للجيش بمنطقة وادي سيدنا العسكرية بولاية الخرطوم في 24/8/2020 قال البرهان “القوات المسلحة لن تفرط في شبر من أرض السودان ” مُضيفاً قوله باللهجة السودانية : “حقنا ما بنخليه ولن نتراجع عنه ولن ننساه حتى يتم رفع علم السودان في حلايب وشلاتين وفى كل مكان من السودان” لافتاً إلي أن السودان: “يتعرض لاستهدف كبير في وحدته وحدوده” وسبق إثارة رئيس مجلس السيادة لهذا النزاع مُجدداً وتبعه تصريحات مُماثلة لمسئوليين سودانيين آخرين , وقد رد البعض والآخرون إعادة إثارة السودان للنزاع لأسباب مختلفة منها (1) دخول العلاقات الإثيوبية / السودانية لمرحلة صدام عسكري وإنتقالها تدريجياً من مجال التحالف الرحب إبان عهد البشير إلي نفق ضيق مُظلم وذلك بعد أن كرر الإثيوبيين ما كانوا يفعلونه في عهد البشير بإنتهاكهم للحدود عند مناطق الفشقة (مساحتها 250 كم مربع وبها 600,000 فدان تُروي من أنهار العطبرة وستيت و Baslam ) والقضارف , فقد أعلن الناطق باسم القوات المُسلحة السودانية في28 /5/2020 أن “إشتباكات مُسلحة جرت مع مليشات اثيوبية درجت باسناد من الجيش الاثيوبي على تكرار الاعتداء على الاراضي والموارد السودانية وأنه ورغم ذلك مازالت القوات المسلحة السودانية تمد حبال الصبر فى اكمال العملية التفاوضية الرامية الى وضع حد لهذه الاعمال العدائية والاجرامية ” وحدد الناطق بداية تلك الإشتباكات بأنها كانت في 26/5/2020 حين انتشرت قوة تقدر بسرية مشاة للجيش الاثيوبي حول معسكر القوات السودانية بمنطقة العلاو داخل الاراضي السودانية , وهو ما قررالمجلس السيادي وخاصة الشق العسكري منه مواجهته بحسم , إذ لم يكن ليُمرر هذا الإنتهاك كما كان يفعل نظام البشير الذي كان يطلق عليه وصف : “التمدد الزراعي” وليس الإنتهاك الحدودي وهو الوصف العملي والواقعي , و(2) التوتر الحادث في العلاقات بين الشقين العسكري والمدني داخل المجلس السيادي الإنتقالي و(3) تبعات رد فعل الشارع السوداني الغاضب بسبب المزيد من تردي أوضاعهم الإقتصادية مُقترنة بصدمتهم من توجهات العسكريين السودانيين للتطبيع مع الكيان الصهيوني وما أشقها وأخطرها من تبعات فلا تجدن قلوب أقرب ما تكون مشاعرها للمثالية إلا قلوب السودانيين , في هذا المناخ المُضطرب وبشكل مُفاجئ وفيما يبدو وكأنه إنقلاب تحولت العلاقات المصرية السودانية إلي مشهد عكسي تداخل مع مشهد إيقاظ شيطان النزاع علي حلايب , إذ تبودلت زيارات المسئوليين علي الجانبين للقاهرة وللخرطوم فقام رئيس الوزراء السوداني بزيارة للقاهرة في 15/8/2020ناقش خلالها مع نظيره المصري القضايا المشتركة مثل الربط الكهربائي والصحة والتعليم والتجارة وسد النهضة والقضايا الإقليمية رد عليه رئيس الوزراء المصري بزيارة للخرطوم في20 /8/2020 بعد فترة إنقطاع بدأت عام 2012 ولم يِشر البيان الرسمي عن هذه الزيارة أنها تناولت نزاع حلايب بل أشار إلي أنها تضمنت الاتفاق على رفع طاقة الربط الكهربائي بين البلدين من 80 إلى 240 ميجاوات / يوم , بعدها زار رئيس مجلس السيادة السوداني الإنتقالي مصر في27/10/2020وصفها وزير الخارجية السوداني المُكلف بـالناجحة والمثمرة , بعدها كانت زيارة رئيس أركان القوات المُسلحة المصرية للخرطوم في 1/11/2020مُتزامنة مع زيارة رئيس المجلس السيادي الإنتقالي السوداني لأديس أبابا بدعوة من رئيس الوزراء الإثيوبى .

توازي مع صعود منحني العلاقات الثنائية المصرية السودانية هبوط في منحني العلاقات الإثيوبية / السودانية التي وصلت إلي نقطة متدنية , ومن الواضح – في المدي القصير علي الأقل – أن القاهرة والخرطوم إتفقتا علي تجاوز نزاع حلايب للإنطلاق نحو الآفاق الإستراتيجية الذي ثبت للجانبين أنها الأجدر بالتوجه صوبها مباشرة , وتأكد ذلك الإتجاه بالإعلان عن وتنفيذ مناورات “نسور النيل 1الجوية ” المشتركة بين القوتين الجويتين لمصر والسودان في الفترة من 11 حتي 19/11/2020 بالخرطوم وهي الأولي في تاريخ التعاون العسكري بين البلدين منذ توقيع مصر والسودان إتفاقية الدفاع المشترك في 15/5/ 197(التي أُلغيت لاحقاً في عهد السيد الصادق المهدي لاحقاً) وهو تطور فارق لا يمكن أن تراه إثيوبيا إلا خطراً مُحدقاً بأمنها القومي الذي يمثل مبني سد النهضة أحد أركانه الآن ومن ثم هدفاً مُرتقباً وفي متناول العسكريتين المصرية والسودانية مجتمعتين أو / و منفردتين وفقاً لسيناريو تراه أديس أبابا قاتماً خاصة بعد إخفاق مصر في حيازة نقطة (قاعدة) عسكرية ثابتة ببلد مجاور يمكنها منه ان تهدد من خلال تواجدها العسكري به إثيوبيا , فلقد أخفقت مصر في تحقيق ذلك مع جيبوتي ومع أرتريا (شبه جزيرة نورا الأرترية) ومع جنوب السودان (في بلدة Pagak) ومع صوماليلاند (زيلع) لأسباب ليس هنا مجال شرحها , يحدث ذلك التطوير للعلاقات العسكرية وللموقف السودان الجديد والمُضاد لإثيوبيا والإشتباكات المُسلحة بين الجيشين الإثيوبي والسوداني في منطقة الحدود بالفشقة مُستمرة مُنتجة ومخلفة وراءها تداعيات مختلفة ليس أقلها إنتهاء مرحلة التحالف بين البلدين التي تأسست في عهد نظام البشير لأسباب كثيرة منها ما هو غير موضوعي وضار بالسودان نفسه اإذ من بينها : أن الكراهية الإثيوبية للدور والتأثير الإسلامي السوداني في محيطه المُمتد حتي الصومال كراهية مُقدسة من قبل المُكون الأمهري المسيحي بإثيوبيا بوجه خاص , يليه يقظة العلاقات السودانية / المصرية المُتجذرة والتي كان إطفاء جذوتها أحد أهم مهام الدبلوماسية الإثيوبية وهو للأسف ما أعان البشير ومبارك الإثيوبيين علي تحقيقه , لذا فهذه الإشتباكات المُسلحة بين القوات الإثيوبية / السودانية المُستمرة للآن والتي تزامنت مع صراع مسلح ضد حكومة أديس أبابا في إقليم تيجراي لا تعد في تقديري مجرد صدام عسكري محدود يمكن تجاوزه بسلسلة إجتماعات كتلك التي كانت تتناولها اللجان الأمنية ولجنة تنمية الحدود , لكنها والحالة هذه إنتقال للعلاقات الثنائية السودانية / الإثيوبية من مرحلة التحالف إلي مرحلة العلاقات النمطية , كذلك فقد تقاطع بسبب تطور سلبي منحني المفاوضات الثلاثية بشأن سد النهضة مع المنحني الهابط للعلاقات الإثيوبية / السودانية ليدفع نحو الصعود ولو بقوة نسبية منحني العلاقات السودانية / المصرية إذ أعلن السودان فجأة في مستهل نوفمبر 2020عن تعليق مشاركته أو إنسحابه أو إحتجاجه (كوصف وزير الري السوداني) من هذه المفاوضات تحت مبرر مفاده عدم استجابة الاتحاد الأفريقي لإعطاء دور أكبر للخبراء الأفارقة فيها وهو مبرر رآه كثير من المراقبين غير مُقنع لأن السودان سبق وأن رفض التوقيع على اتفاقية واشنطن في فبراير 2020 والتي وضع فيها الخبراء الدوليين الـ10بالمئة من النقاط المختلف عليها من الأطراف الثلاثة في قالب مُرض متوازن يحقق مصالح كل الأطراف , لكن في التقدير أن هذا الموقف السوداني أربك الإستراتيجية التفاوضية الإثيوبية التي كان أحد دعائمها تأييد السودان ومعارضة مصر لإثيوبيا فيما يتعلق بخطتها في ملأ سدي النهضة والسرج معاً بنحو 74 مليار متر مكعب وكذا البرنامج الزمني للملء , وهو ما طرأ عليه تغيير حالياً إذ أعلنت وزارة الري السودانية عن ضرورة تنسيق الجانب الإثيوبي مع السودان فيما يتعلق ببرنامج الملأ لتأثيره علي خزان الروصيرص , وهو ما سبق وأشارت إليه هذه الوزارة في أحد بياناتها في 25/6/2020 عندما أشارت إلي أن : ” البدء في ملء خزان سد النهضة قبل التوصل الي اتفاق يترتب عليه تعريض سلامة تشغيل سد الروصيرص وبالتالي حياة الملايين من الناس الذين يعيشون في المصب للخطر , وبالتالي أصبحت هناك ثغرتان في حائط التحالف الإثيوبي / السوداني الآيل للسقوط ليس بالضرورة بسبب ما يمكن للبعض توقعه بإحالته علي جهد دبلوماسي وسياسي تخريبي تمارسه مصر ولكن لأن هذا التحالف وإن قام علي ما روج طرفيه من أنه مُؤسس علي مصالح مُشتركة إلا أن ذلك ليس بصفة مُطلقة لأنها مصالح يقطعها تباين الهويتين الإثيوبية والسودانية دينياً وإجتماعياً وهو ما لا يمكن إنكاره حتي ولو كان ذلك بعبارة مُتهورة حتي وإن كان بها قدر من الحقيقة كتلك التي تفوه بها الرئيس البشير في خطاب جماهيري في 4 ديسمبر 2014 بمناسبة تدشينه ورئيس الوزراء الإثيوبي لشبكة الربط الكهربائي بين البلدين بولاية القضارف المُتاخمة للحدود مع إثيوبيا وقال : “نحن أصلاً شعب واحد والسودان جزء من الحبشة الكبري التي كانت تضم الصومال وإرتريا وجيبوتي وإثيوبيا لكن الحدود التي وضعها المُستعمر هي التي فرقتنا ” , وطبعاً فموجب عبارة عجيبة كهذه يكون السودان عضو الجامعة العربية حبشي لا عربي .

إستمرت الإشتباكات المُسلحة بين الجيشين السوداني والإثيوبي فقد أفاد مصدر رفيع في حكومة ولاية القضارف شرقي السودان شبكة R Tالروسية التي نشرت في 16 ديسمبر 2020 أن المليشيات الإثيوبية نصبت كمينا بمنطقة سودانية على الشريط الحدودي أدى لمقتل (إستشهاد) ضابط سوداني برتبة رائد , مُشيراً إلي أن الجيش السوداني شن هجوما صباح اليوم ودارت معارك شرسة أدت لمقتل (إستشهاد) ثلاثة جنود من الجيش السوداني بمنطقة الآسرة على الشريط الحدودي , وأكد هذا المصدر أن الجيش السوداني استرد مناطق سودانية بداخلها مزارعين إثيوبيين في الأيام الماضية مما إعتبره الجيش الأثيوبي استفزازا , الأمر الذي دعا الفريق أول البرهان رئيس المجلس السيادي إلي زيارة تفقدية في 17 ديسمبر 2020 لولاية القضارف حيث تجري هذه المعارك , ومن جانبها أصدرت الخارجية المصرية بياناً أعربت فيه عن ” تضامن مصر الكامل مع السودان الشقيق وحقه في حماية أمنه وممارسة سيادته على أراضيه “, وشجبت الخارجية المصرية ما وصفته “بالإعتداءات الإثيوبية غير المبررة ” .

يُشير ما تقدم – كما سبقت الإشارة – إلي أن العلاقات المصرية / السودانية وجدت سبيلها إلي إستعادة المستوي المناسب للتاريخ المُشترك للشعبين الذي تكون علي مدي الفترة من 1821 حتي أول يناير 1956 تاريخ إستقلال السودان عن مصر وبريطانيا (دولتي الحكم الثنائي بالسودان) , وكذا الوشائج العميقة المُشتركة بينهما وإلي حد ما بين النظامين ولعل ذلك يستمر , وبالتالي فهناك توقع مُرجح في مضي العلاقات الثنائية المصرية / السودانية إلي سبيل قد يُفضي في النهاية إلي تحالف لا تريده القوي المُتربصة بالسودان ومصر ومعاً هذه القوي دولية وأخري إقليمية والأخيرة ستعمل علي كسر الحلقة التي تتكون لتربط القاهرة بالخرطوم خدمة لأهدافها التي هي بالتأكيد جزء من أهداف القوي الدولية علي إختلافها , ولذلك كانت إحد المحاولات الأولية الإعلان الأخير الكاذب عن ضم مصر لمنطقة بارتازوجا أو بير طويل أو ما يُسمي زيفاً ” مملكة الجبل الأصفر” لأراضيها ورفع العلم المصري عليها لأول مرة “, تلك المنطقة واقعة علي الحدود المصرية السودانية جنوب خط عرض 22 درجة شمالاً , ونظراً للخطورة المُحتملة جراء فتح ملف هذه المنطقة التي يُعتبر وضعها كمنطقة حدودية حالة فريدة وشاذة في بابها , لذا من الضروري تناول هذه الحالة بالشرح والتوضيح كما يلي :

نشأة منطقة بير طويل / بارتازوجا

نشأت هذه منطقة بير طويل نتيجة تعديلات بقرارات إدارية للإدارتين البريطانية والمصري إبان فترة الحكم الثنائي للسودان CONDIMINIUM المُؤسس علي ما سُمي “وفاق 19 ينايرعام 1899″ الذي وقعه عن الحكومة المصرية وزير (ناظر) خارجيتها بطرس باشا غالي وعن ملكة بريطانيا مندوبها السامي في مصر اللورد كرومر , وتقع هذه المنطقة جنوب خط الحدود الدولية بين مصر والسودان علي أن تتبع الإدارة المصرية التي تنصلت من السيادة عليها , وتبلغ مساحة هذا الجيب 2060 كم مربع , الذي نشأ إثر إجراء أحد التعديلات الإدارية الثلاث علي خط عرض 22 درجة شمالاً برسم إنحناء لهذا الخط المستقيم جنوب خط 22 درجة شمالاً ليتشكل جيب علي شكل هندسي رباعي الأضلاع (شبه منحرف) , وأصبح مثلث حلايب وبير طويل وقبلهما نتوء حلفا خروجاً عن إستقامة خط عرض 22 درجة شمالاً مناطق حدودية مبعثرة علي خط الحدود الدولية لمصر والسودان البالغ طولها 1280كم من نقطة الإلتقاء الثلاثية لحدود مصر والسودان وليبيا غرباً حتي ساحل البحر الأحمر شرقاً , وبير طويل / بارتازوجا منطقة حبيسة لا منفذ لها علي البحر تلتقي في نقطة علي خط الحدود الدولية 22 درجة شمالاً مع مثلث حلايب المُطل علي البحر الأحمر الواقع أقصي الجنوب الشرقي لمصر , وتأخذ منطقة بير طويل / بارتازوجا و يتماس جيب بير طويل/ بارتازوجا عند حده الشمالي مع خط عرض 22° شمالاً بطول 95 كم وضلعه الجنوبي طوله 46 كم , ويتراوح طوله من الشمال إلى الجنوب ما بين 31 كم و 26 كم , وبعد توقيع هذا الوفاق الذي أشار في مادته الأولي إلي : ” تُطلق لفظة السودان في هذا الوفاق علي جميع الأراضي الكائنة إلي جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض ” قامت إدارة الحكم الثنائي للسودان بإجراء ثلاث تعديلات إدارية علي خط الحدود الدولية بين مصر والسودان الذي خرج عن إستقامته في هذه المناطق المُصطنعة الثلاث , ومن المهم لتقييم حالة منطقة بير طويل / بارتازوجا الإشارة إلي عنوان القرارين المُتعلقين بمثلث حلايب ونتوء حلفا لإيضاح وضعية أو حالة بير طويل / بارتازوجا وذلك علي النحو الآتي :

(1) نص قرار وزير الداخلية الصادر في 26 مارس 1899

بتحديد إختصاص محافظة النوبة

خطاب الداخلية رقم 9 إدارة مؤرخ في 26 /3/1899

لمحافظة النوبة مأخوذ من العدد (35) من الوقائع المصرية الصادر في 27 /3/1899

” نـــظـــارة الــداخـــلـــيـــة “

إطلعنا علي إفادة حضرتكم رقم 14/3/1899 نمرة 19 محاسبة المُتضمنة أنه بناء علي طلب جناب قوندان حلفا وتنفيذاً للوفاق المُبرم بين حكومة جلالة ملكة إنجلترا والحكومة المصرية بتاريخ 19 /1/ 1899 فيما يختص بالحدود الفاصلة بين مصر والسودان قد تقرر بين حضرة القومندان العمومي عاليه وضابط بوليس التوفيقية من جهة وبين مأمور فرقة أملاك الميري لمحافظة ذاك الطرف ومعاون بوليس مركز حلفا من جهة أخري , علي جعل نهاية حدود بلاد السودان شمالاً من الجهة الغربية علي مسافة 200 متر شمالاً من البرية بناحية فرس ومن الجهة الشرقية علي البرية الكائنة بناحية أدندان , وأنه واضح هناك علامتان مكتوب علي وجه كل منهما الشمالية (مصر) والجنوبية (السودان) وكان ذلك بحضور عمدة ومشايخ الناحيتين المذكورتين , ونتج عن هذا أن ناحية فرس التي تتبع السودان تُرك من زمامها 3 فدان و 2 قيراط أطيان اً و 58 نخلة وتُرك للسودان من زمام ناحية أدندان التابعة لمصر 99 فدان و 7 قيراط و5 أسهم و 155 نخلة , وأنه بهذا التحديد دخل حدود السودان من بلاد المحافظة عشرة بلاد زمامها 4094 فدان و12 قيراط و 220 سهم أطياناً , بما في ذلك 112 فدان و 5 قيراط و 12 سهم أطياناً غير مربوطة و82206 نخلة ومقدار أهاليها 13138 نفس , وأنه بناء علي ما ذُكر رأيتم تقسيم البلاد الباقية من مركزي حلفا والكنوز علي مركزين كما كانا حسب الآتي بعد :- …….. “

(2) قرار نــاظــر الداخـــلـــيــة بتاريخ 4 نوفمبر 1902

بشأن مناطق وعربان مصر والسودان المُتضمن

ضم قبائل البشارية والمليكاب قبلي إلي السودان

وقبائل العبابدة إلي مصر

“إنه بالنسبة لتتبع مديرية أسوان إلي نظارة الداخلية قد إقتضي الحال وضع نظام مخصوص لعربان هذه المديرية , لان نظام العربان الصادر به القرار من هذه الوزارة بتاريخ 3 مايو سنة 1895 لا ينطبق علي أحوال تلك المديرية .

ولما كان من الضروري لصالح الأشغال الإدارية تحديد منطقة عربان مصر والسودان بصفة نهائية , فلذلك قد حصل الإتفاق بين نظارتي الداخلية والحربية علي تشكيل قومسيون لهذا الغرض تحت رئاسة المديرية وأعضاءه ثلاثة مفتشون أحدهم من الداخلية والثاني من حكومة السودان والثالث من مصلحة خفر السواحل ويحضر فيه مشايخ العربان المقيمين بصحراء المديرية .

وحيث ان هذا القومسيون قد إجتمع بتاريخ 31 مايو سنة 1902 وأدي مأموريته ووردت للنظارة صورة من قراره مرفقة بخريطة مرسوم بها المنطقة والآبار المُخصصة لكل قبيلة وتلك الخريطة مثرفقة بهذا .

وحيث أنه تقرر ان حدود منطقة القبائل التابعة للهيئة الإدارية في السودان يحتوي علي كافة قبائل البشارية وحدود منطقة القبائل التابعة للهيئة الإدارية في القطر المصري تحتوي علي قبائل العبابدة ما عدا المليكاب والبتر المعروفة ببتراجات اللذين يتبعان حكومة السودان , وحيث أنه قد رؤي للنظارة موافقة ما يشتمل عليه القرار المذكور , فبناء علي ذلك قررنا ما هو آت :-

م / 1 : يُعتمد قرار القومسيون المُشار إليه بالكيفية المُبينة بالمواد الآتية :………….

م / 2 : صار تحديد آبار ومنطقة عربان البشاريين الموجودة بأراضي الحكومة المصرية كالآتي : ….. “

كذلك يُعد القرار الآتي الإشارة إليه تتمة أو تمهيداً لقرار وزير(ناظر) داخلية مصر بتاريخ 4 نوفمبر المُشار إليه آنفاً 1902وهما مُتعلقان بتخصيص مثلث حلايب لبدو البشارية و منطقة بير طويل / بارتازوجا لبدو أو عربان العبابدة ونص القرار كالتالي :

قرار ناظر الداخلية

بشأن الوضع الجديد الذي نشأ علي الحدود

بتاريخ 31 مايو 1902

” لقد أتفق أنه من المصلحة ومن الأهمية بمكان أن يتم تحديد حدود مناطق القبائل في مصر والسودان علي نحو نهائي ومُحدد , فقد عقدت اللجنة إجتماعاً بتاريخ الحادي والثلاثين من مايو وأنهت أعمالها وأتخذت قراراً قامت برفعه إلي وزير الداخلية , كما قامت كذلك بإعداد خريطة توضح آبار كل قبيلة وأراضيها .

وتم الإتفاق بأن حدود مناطق القبائل التابعة لحكومة السودان تشمل كل أراضي البشاريين , وأن حدود مناطق القبائل التابعة للإختصاص الإداري للحكومة المصرية تشمل كل أراضي البدو العبابدة بإستثناء قبيلة المليكاب جيب بما في ذلك آبار بيخوان التابعة لحكومة السودان , وعليه فقد تم الإقرار بأن القرار المذكور اعلاه قد حصل علي موافقة الوزارة . “

نــــــاظــــر الداخـــــلــيــة

مـــصــطــفــي فــهــمــي

ووفقاً لمكاتبات بين المكتب العسكري البريطاني بالقاهرة ومدير المساحة البريطاني أصبحت المنطقة التي تناولها قرار وزير الداخلية في 31 مايو 1902 والتي سُميت لاحقاً ” مثلث بارتازوجا ” تمتد حدودها إلي الجنوب من كوروسكو الواقعة علي النيل في إتجاه الجنوب الغربي ثم تقطع خط 22 درجة شمالاً في إتجاه جنوبي علي إمتداد خط عرض 22 درجة شمال في إتجاه جنوبي علي إمتداد خط طول 33 درجة و 10 ثوان شرقاً لمسافة حوالي 31 ميل حتي يصل إلي جبل بارتازوجا , ومن هناك يتجه خط الحدود نحو الشرق في إتجاه شمالي لمسافة 29 ميل حتي يصل لبئر همسات عمر , وتتجه الحدود من هذه النقطة في إتجاه شمالي لمسافة 32 ميل حتي جبل الديكة الذي يقع علي بعد 17 ميل جنوب خط عرض 22 درجة , ثم تتجه الحدود من جبل الديكه إلي الشرق في إتجاه شمالي لمسافة 15 ميل حتي تصل إلي جبل أم الطيور الفوقاني إلي الشمال في إتجاه شرقي لمسافة 42 ميل حتي تصل الحدود إلي جبل نيقرود الفوقاني , ومن هناك يتجه خط الحدود جنوباً لمسافة 17 ميل حتي يصل لبئر منيجا ثم يتجه شمالاً لمسافة 36 ميل حتي يصل لبئر شلاتين الواقعه علي البحر الأحمر , كل ذلك علي مستوي الخرائط الكروكية بدون تعليم أو علامات حدود , ومنطقة بير طويل قاحلة تماماً ومُحيطها علي إتساعه صحراوي مليئ بالجبال كجبل بارتازوجا Bartazuga(333متر) وجبل طويل (661 متر) وجبل آيس (1640 متر) وجبل شبديب (1914متر) وجبل أميناب (685متر) وجبل شياب (983متر) وجبل مبروك (1324 متر) وجبل أوبكيك (1859 متر) وجبل أيس جنوب خط 22 درجة عرض (1675 متر) وجبل حجر الزرقة جنوب شرق بير طويل (614 متر) وجبل منصوري شمال غرب بير طويل (798 متر) وجبل أنجات (843 متر) وبير أنجات وبينهما وادي أنجات بالإضافة إلي جبال أخري وخيران كخور شياب وآبار كثيرة كآبار إيفات وحميرة وشيتاي وآيس وكموتيت (به مناجم قديمة للذهب) وكلها مُبعثرة حول وفي منطقة بير طويل .

في الخرائط الصادرة عن الحكومة السودانية تظهر منطقة بير طويل كمنطقة مصرية تحت خط عرض 22 درجة شمالاً أما الخرائط المصرية فلا تظهر هذه المنطقة بالمرة أو يُشار إليها بلون أراضي السودان علي الخريطة وبالتالي فهي أنها بذلك جزء من أراضي جمهورية السودان وهي وفقاً لوجهة النظر المصرية واقعة جنوب خط عرض 22 درجة عرض شمالاً , ومن المُلاحظ أنه لا الحكومة المصرية ولا السودانية لم تضعا بير طويل في خرائط القطاعات البترولية لهما كما فعلتا في حالة مثلث حلايب , كما لم تُمارس بترخيص من أيهما أنشطة تعدينية من أي نوع , كما لم يُسجل أي تواجد عسكري أو مدني مصري ولا سوداني بها ولم تعلن أيهما منذ إستقلال السودان عن مصر وبريطانيا في الأول من يناير 1956 أن بير طويل تحت سيادة أيهما , ومن ثم أصبحت المنطقة كما لو كانت أرضاً بلا صاحب Terra nullius , ومن الأمثلة القليلة التي تؤكد هذا الوضع أصدار غرفة السياحة المصرية عام 2015 لبيان تضمن عبارة :” يحظر على شركات السياحة تنظيم رحلات سياحية إلى بئر الطويل الواقعة جنوب خط عرض 22 شمالًا ” حتي يمتنع علي بعض المغامرين تحت إغراء الشهرة أو بدفع من جهات إستخباراتية التوجه للمنطقة لإعلانها جمهورية أو مملكة كما فعل بعضهم , إذ أعلنتها من أوديسا بأوكرانيا في 9 سبتمبر 2019 سيدة تُدعي نادرة ناصيف مملكة أسمتها ” مملكة الجبل الأصفر” , أما علي الجانب السوداني فوفقًا لوزير الخارجية السوداني الأسبق الدرديري محمد أحمد في حوار له مع صحيفة “الانتباهة ” السودانية فإنه ” لم يعد في القانون الدولي أرض مباحة “، موضحًا أنه ” لا توجد منطقة ليست خاضعة لسيادة دولة ما حتى في حالات النزاع , لأن النزاع في النهاية ينتهي بالتسوية ” , وهو كلام معقول تماماً , ولعل التعليق الذي صرح به د . هاني رسلان رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية في مصر مما يُؤكد أن مملكة لجبل الأصفر عمل مخابراتي قوله إن “الإعلان الآن عن حكومة لهذه المملكة المزعومة يعني أن هناك فكرة قد جرت دراستها وأن هناك جهة أو جهات تقف وراء ذلك وأن هناك خططًا قد وضعت وأهداف معلنة جرى الإفصاح عنها وأخرى غير معلنة يمكن فهمها من السياق وسوف تتضح مؤشراتها تدريجيًا أو بالتجزئة ” .

إن حالة بير طويل / بارتازوجا نادرة الحدوث لانظير لها سوي في حالتين بارزتين الأولي حالة منطقة Marie Byrd Land بالقارة القطبية الجنوبية Antarctica والتي يحدها جنوباً المحيط الهادئ والثانية حالة منطقة Gornja Siga غير المأهولة بالسكان – كبير طويل – وتُدعي جمهورية الأرض الحرة Liberland المُعلنة في 13 أبريل 2015 , ونشأت عقب تحلل جمهورية يوغسلافيا الإشتراكية الفيدرالية عام 1991نتيجة نزاع حدودي بين كرواتيا وصربيا اللتان لم يدع أحدهما أو غيرهما سيادته أو ملكيته لها .

إن الوثائق بين إدارتي المخابرات والمساحة البريطانيتين المُتعلقة بمنطقة بير طويل / بارتازوجا وبقراري وزير الداخلية المصري بتاريخ 31 /5/ 1902 وبتاريخ 4/11/ 1902 قليلة جداً منها هاتين المُراسلتين ونصهما كما يلي :

عزيزي Stack ,,,

أجدني مُضطراً للغاية كي أعرف إذا كان بإمكانك أن تخبرني بما تم تحديده كحد إداري صحيح بالنسبة للحدود الإدارية بين مصر والسودان , وسلطتنا هنا هي على النحو التالي :

1- القرار المُؤرخ في 31/5/ 1902 حيث تم اتباع النقاط الواردة على أحدث خريطة حائطية لدينا لمصر بقدر ما يصل إلى جبل بارتازوجا يشير القرار من ثم إلي إستمرار الخط مباشرة حتي Korosko ولكنا لم نظهره على أنه بسبب أن سلطتنا الأخري هي: ,

2- نسخ المراسلات بين مصلحة المساحة والمكتب العسكري عام 1907 . في خطاب برقم 11 مُؤرخ في 16 يونيو 1907 طرح السيد Owen إقتراح (وقد أشرت إليه بعلامة X ) هذا الإقتراح كان علي ما يبدو قد وافق عليه السردار / قائد الجيش(أنظر خطاب الجيش رقم 111) . وبصفتنا هذه أظهرنا الحدود , وسأكون سعيداً أن أعرف إن كان بإستطاعتنا إعتبار أن هذا صحيح بالنسبة لأي خرائط نضعها لمصرفي المستقبل , أو أي نغيير قيد الدراسة . أنتظر ردكم عند الإنتهاء من ذلك .

المُخلص ,,,

G.A.G . Mackintosh

الـــرد التالي : خطاب مُؤرخ في 13 سبتمبر 1909 مُوجه من السيد Stack (مكتب المخابرات بالقاهرة) للسيد Mackintosh (مصلحة المساحة) :

عزيزي Mack ,,,

لا أعتقد أن هناك أي فكرة في دراسة تغيير ما أُتفق عليه عام 1907 وهو أنه بدلاً من أن تستمر الحدود الإدارية من جبل بارتازوجا إلي Korosko , فجب أن تتوقف عند النقطة التي تعبر فيها الحدود السياسية , عندها تتجه غربًا من هذه النقطة بإتباع الحدود السياسية أي خط العرض 22 شمالاً الموازي ، لذلك يمكنك افتراض أن هذا صحيح لأية خرائط مستقبلية تضعها لمصر . المخلص ,,,

Lee Stack

أول ما يلفت النظر في هاتين المراسلتين عن منطقة بارتازوجا (بير طويل) أن المراسلات بشأنها ليست فقط شحيحة بل بطيئة زمنياً فهذين الخطابين يشير أحدهما إلي أن موضوع الحدود الإدارية للمنطقة خضع للدراسة عام 1907 أي قبل بعد عامين من هاتين المراسلتين المُؤرختين عام 1909, كما أن هاتين المراسلتين يفصل بينهما وبين قراري وزير الداخلية المصري بشأن مثلث حلايب وبارتازوجا المُؤرخين في31 مايو 1902و 4 نوفمبر 1902 سبعة أعوام , ولذلك علاقة ما بجهود متزامنة بذلتها بريطانيا في ترسيم حدود مصر الشرقية والغربية وهي جهود تداخلت زمنياً مع هذه الجهود المعنية بإجراء تعديلات علي الحدود الجنوبية لمصر التي سبق وتحددت بخط عرض 22 درجة شمالاً , إذ في نفس هذا الوقت وتحديداً في نوفمبر 1904 بدأت بريطانيا في فتح حوار مع الدولة العثمانية ثم مع إيطاليا في شأن الحدود الشرقية (إثر حادثة طابا) والغربية لمصر (واحة جغبوب) , وسأعرض تالياً بإختصار شديد لهذا الجهد البريطاني لأنه سيساهم في إماطة اللثام عن دوافع بريطانيا الحقيقية في إجراء ما أسمته “حدوداً إدارية” علي خط عرض 22 درجة شمالاً الذي يمثل حدود مصر مع السودان , وهو أمر لم تستطع اللجوء إليه في ترسيم حدود مصر الشرقية (فلسطين) والغربية(ليبيا) , لكن قبل ذلك لابد من إيضاح هشاشة ولا معقولية المنطق البريطاني الذي كان وراء إتخاذ وزير داخلية مصر للقرارين المُشارإليهما آنفاً فيما يتعلق بوضع حدود إدارية لمنطقتي مثلث حلايب وبير طويل بارتازوجا , بالرغم من أن مصر آنئذ لم تكن تحت الحماية البريطانية التي فُرضت عليها لاحقاً في 18 ديسمبر 1914مُنهية السيادة العثمانية الأسمية عليها , ففي هذا الوقت كان النفوذ البريطاني علي مصر في أوجه , ولما كانت بريطانيا تُشارك مصر في حكم السودان بموجب وفاق يناير 1899 , إلا أنها في ذلك التوقيت كانت تكاد وأن تكون مُنفردة بحكم السودان وتعمل كل ما يمكنها فعله لسلخ السودان عن مصر تدريجياً , لذا كانت قرارات وزير داخلية مصر بشأن حلايب وبير طويل ونتوء حلفا المُشار إليها تصب في خدمة الأهداف بعيدة المدي لبريطانيا بمصر والسودان لأسباب مختلفة منها :

1- كان موضوع قراري وزير الداخلية المصري تحديد آبار المياه وحركة العربان أو البدو الرحل من البشارية والعبابدة وعليه وبناء علي ذلك خُصص مثلث حلايب للبشارية علي أن تكون إدارته من الخرطوم لسهولة ذلك ولقربه من الخرطوم (؟؟؟؟) وخُصصت منطقة بير طويل / بارتازوجا المُلاصقة لمثلث حلايب تماماً للعبابدة علي أن تكون إدارتهم خاضعة للقاهرة (؟؟؟؟) فكيف ذلك والمسافة بين المنطقتين والقاهرة والخرطوم تكاد وأن تكون واحدة ؟ وبمناسبة الحديث عن إدارة حلايب من الخرطوم حيث الحاكم العام (البريطاني) للسودان ممثلاً لحكومة الحكم الثنائي أورد مثالاً واحداً فقط للتدليل علي عدم إدارته لمثلث حلايب , ففي الدليل الذي اصدرته الحكومة المصرية لأول مرة وطُبع بالعربية والإنجليزية معاً عام 1950 ويحتوي علي ثبت بكل العنواين والأنشطة والإدارات التي لحكومة السودان , يسترعي النظر فيه فيما يتعلق بالخدمات الأساسية لأي حكومة أننا لا نجد أي خدمات حكومية من أي نوع في منطقة حلايب كلها وكدليل علي ذلك ورد بالصفحة 48 منه قائمة بمكاتب البريد والتلغراف بالسودان لم يكن من بينها مكتب أو مركز بحلايب كما ورد أيضاً بالصفحة 50 منه بيان بمراكز الهواتف العمومية لم يكن من بينها حلايب أيضاً , كما أنه فيما يتعلق بأقسام الشرطة المنتشرة في ربوع السودان نجد أن مديرية كسلا التي من المُفترض أن تتبعها حلايب إدارياً , لم تتضمن حلايب كقسم أو فرع لقسم من أقسام إدارتها التي قُسمت إلي خمسة مناطق رئيسية هي كسلا والجنوبية وريفي القضارف والبجا (التي من ضمن موظفيها معاون لشئون العرب يُدعي عمر محمد الأمين ) والبحر الأحمر (بورسودان) وثلاث مناطق فرعية هي أروما وسواكن وطوكر , بل إننا لا نجد قسماً للشرطة بحلايب بالرغم ضرورة ذلك كأقل ظل من ظلال الدولة الذي لابد منه لتسهيل حياة الأهالي وتأمينها بتوفير الحد الأدني من الخدمات الأساسية كالشرطة والإتصالات والصحة والتعليم , إلا أنه لم توجد كذلك عيادة بسيطة أو مدرسة أو مديرية صحية أو تعليمية بهذه المنطقة , أما المواصلات فلم يكن بحلايب مطار علي حين يشير الدليل إلي وجود مطار بالخرطوم ومطارات في وادي حلفا وملكال وجوبا والفاشر , أضف إلي ذلك إلي أنه في الجزء من الدليل الذي يبدأ بالصفحة 252 وينتهي بالصفحة 268 والخاص بالمهن والصناعات بالسودان لا يوجد أي عنوان لأي من الأنشطة حتي تلك المتعلقة بالإتجار في الثروة الحيوانية بحلايب وهي رائجة تاريخياً بهذه المنطقة وتشكل النشاط الوحيد لعربانها , ومن ثم فمقولة ربط حلايب بالخرطوم كانت فرية إذ لم يكن لها أي تطبيق ميداني في حلايب بأي صورة من الصور .

2- القرار الصادر عن وزير الداخلية في 4 نوفمبر 1902 والمُـعدل لقرار آخر صادرفي 1895 بشأن العـربان بــشرق النــيـل (العبابدة والبشارية) علي نحو ما هو مُبين بنص القرار كان قراراً مصرياً أي لم تتخذه إدارة الحكم الثنائي الأنجلو / مصرية , ولم يُتبع منذ إتخاذه في ذلك الوقت بعملية تعليم أو تحديد أو رسم للحدود بصفة فعلية وأشارت معظم الخرائط المُتعلقة بمنطقتي حلايب وبير طويل الحدود السياسية والإدارية معاً بهاتين المنطقتين ومعهما نتوء حلفا , وهو ما أخذت به دراسة رسمية للخارجية الأمريكية كما سيُشار إليه لاحقاً , ذلك أن القرار الصادر في 4 نوفمبر 1902 كان لبيان الحد الإداري لا السياسي خلافاً لنص قرار وزير الداخلية الصادر في 26 مارس 1899 الذي كان ” لتحديد إختصاص محافظة النوبة ” وهو أيضاً عمل إداري بحت , ومع ذلك أعقب هذا القرار وضع علامات حدود حجرية وفقاً لقرار نتوء حلفا وهو ما لم يفعله أبداً أي من الجانبين المصري والسوداني في حالتي حلايب وبير طويل .

3- الخط الإداري الذي أشارت إليه المراسلتين السابقتين وكذلك المُشار إليه في قراري وزير الداخلية المصري في 31 مايو 1902 و4 نوفمبر 1902 لحلايب وبير طويل وُضع وفقاً لنصه لينصرف معناه علي الــسكان ولإدارة ” العربان ” والمياه وليس علي الأرض أو المكان علي إعتبار أنها قبائل رعوية متحركة غير ثابتة في مكان , والتمييز بين إدارة الأرض وإدارة السكان ليس أمراً مُستجداً أو فريداً في بابه , ففي المشروع الذي قدمه رئيس وزراء الكيان الصهيوني مناحيم بيجين للحكم الذاتي في المناطق الفلسطينية المُحتلة ضمن مشروعه الرسمي للسلام مع مصر في مباحثات الإسماعيلية يومي 25 و26 ديسمبر 1977 أشار لتلك المنهجية) والتي رفضتها مصر في حالة الشعب الفلسطيني (فهم ليسو بدو رحل , لذلك لم يصدر عن هذه المباحثات بيان مُشترك نتيجة الخلاف بين القيادتين المصرية والإسرائيلية , لأن المشروع الإسرائيلي المٌقترح للحكم الذاتي كان معناه ومضمونه مُنصرفاً ومحصوراً فقط علي السكان وليس علي الأرض والسكان معاً لذلك كان الرفض المصري باتاً وحاداً , فمشروع بيجين للحكم الذاتي كان قائماً علي إعطاء عرب أرض إسرائيل حق إدارة شؤنهم الإدارية والبلدية مع تمسك إسرائيل بمطلبها في السيادة علي أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بإعتبارهما ” أراض مُحررة ” , وهو نفس الأمر الذي تكرر في قراري وزير داخلية مصر بشأن حلايب وبير طويل إذ أن البشارية والعبابدة ليسوا شعباً بل جزء من شعب حتي يمكن وضع حدود سياسية لأراض بها سكان من البدو الرحل لا موضع ثابت لهم , بالإضافة إلي أنهم يعيشون داخل دولة مصر والسودان جزء منها (الحكم الثنائي) .

4- الذي يقرأ القرارين الصادرين بشأن عربان البشارية والعبابدة يغشاه إنطباع كاذب بأنهما كانا في حالة صراع علي مياه الآبار وهو أمر مجاف تماماً للواقع لأسباب مختلفة أهمها أن كلاهما مُتحدر من القبيلة الأم وهي قبيلة البجا التي فروعها الرئيسية الأمرار و البني عامر والهدندوة والبشارين الرئيسية , كما توجد قبائل أخري ثانوية متحدرة عن البجا وهي قبائل الهلكنا وأرتيكا وكوميلاب (كسلا) وشيعاب (طوكر) والعبابدة (بمصر بين النيل والبحر الأحمر) , فالعبابدة والبشارية ينتميان من الوجهة الأنثروبولوجية إلي تقسيم إثني رئيسي واحد هو قبيلة البجا وكلهم يمتدون من إثيوبيا فإرتريا فشرق السودان حتي حلايب , وليس من المُحتم ولمجرد أن بطن من بطون البجا وهم البشاريين متواجدين في إثيوبيا وأرتريا وشرق السودان ويعيش جزء منهم في حلايب أن نعتبر حلايب أرضاً سودانية وإلا إعتبرنا شرق السودان أرضاً أرترية أو إثيوبية وفقاً لهذا المعيار . *(السفير بلال المصري . كتاب / العلاقات المصرية السودانية وأزماتها الثلاث.الجزء الأول : حلايب . صادر عن دار كتبنا عام 2019) , كما أنه إتصالاً بذلك تنبغي الإشارة إلي أنه بالنسبة للعبابدة يُذكر أن مجتمعهم علي الرغم من قلة عدده النسبية إلا أنه يتوزع فيما يُعرف بالصحراء الشرقية المصرية الوسطي وهي مساحة واقعة بين خطي عرض 24 درجة شمالاً و 27 درجة عرض شمالاً وتلك الواقعة بين وادي النيل غرباً وساحل البحر الأحمر شرقاً ويعيشون علي الرعي أساساً ويجوبون من أجل ذلك أودية تلك المنطقة بحثاً عن العشب النامي نتيجة مياه الأمطار النادرة بجانب مورد مياه آخر هو الآبار الإرتوازية القليلة مثل بئر العطشان وبئر الحربية وبئر الحمامات والتي بين كل منها والآخر مسافات بعيدة ( د . سمير أحمد خواسك . في بلاد العبابدة . سلسلة أقرأ . دار المعارف 1980 . صفحة 42) , وبسبب تلك البيئة الصحراوية القاسية نجد أن بعض الأسر العبادية نزحت إلي قري بصعيد مصر غرباً أو إلي المدن الساحلية علي البحر الأحمر شرقاً كسفاجا والقصير أو إلي بلدات صغيرة نشأت بسبب الإكتشافات التعدينية مثل “حماضات”و “الحمراوين” بالصحراء الشرقية بقرب مناجم الفوسفات *( المرجع السابق . صفحة 54) , وسواء أكان سكان حلايب أو بئر طويل من البشارية أومن العبابدة فكلاهما إستطاع الذوبان أو لنقل الإمتزاج مع المجتمعين المصري والسوداني وأصبح جزءاً من نسيجه وهو ما كان عليه الحال وقت صدور قراري الحدود الإدارية في مايو ونوفمبر 1902تحت ذريعة تيسير الإدارة للعربان , فلم يُعهد من دولة أي دولة أن تجنح إلي فصل أو سلخ جزء من أراضيها تحت ذريعة بها من السخف أكثر مما بها من التهافت وإنعدام الموضوعية كحالة قراري وزير الداخلية المصري المُشار إليهما .

5- إثباتاً للطبيعة الإدارية التي لها علاقة بموضوع السيادة لتعديلات الحدود يُشار للمذكرة الشخصية من صدقي باشا التي سُلمت لمستر بيفن في 19 أكتوبر عام 1946 مُتضمنة ما نصه “… وحتي يحين الوقت الذي يصبح فيه السودانيون أنفسهم أهلاً لإدارة شؤنهم – وتأمل مصر أن لا يطول هذا الوقت – لا أري مانعاً من الموافقة علي إستبقاء النظام الإداري الحالي المُترتب علي إتفاقية 1899” أي أن النظام الإداري القائم بالسودان الناتج عن التعدبلات الإدارية الثلاث لخط الحدود وتضمنت حلايب وبير طويل /بارتازوجا ونتوء حلفا هي في الواقع وفقاً لعبارة دولة صدقي باشا تعديلات لا تمثل وضعا دائماً بدليل أن المادة الحادية عشرة من معاهدة 1936 وملحقاتها في البند(1) اشارت لما نصه “مع الإحتفاظ بحرية عقد إتفاقيات جديدة في المستقبل لتعديل إتفاقيتي 19 يناير و 10 يوليو 1899 , قد إتفق الطرفان المتعاقدان (أي بريطانيا ومصر)علي ان إدارة السودان تستمر مُستمدة من الإتفاقيتين المذكورتين , ويواصل الحاكم العام بالنيابة عن كلا الطرفين المُتعاقدين مباشرة السلطات المُخولة له بمقتضي هاتين الإتفاقيتين” , مما يعني مباشرة أن إتفاقيتي 1899 اللتين كانتا مرجعاً للقرارات الإدارية التي أصدرها وزير الداخلية المصري بشأن الوضعية الإدارية لحلايب وبير طويل ونتوء حلفا لم تعتبرهما مصر إتفاقيتين دائمتين بل إن رئيس مجلس الوزراء المصري بخطابه أمام مجلس الأمن في 11/8/1947أشار لما نصه “إن مجلس الأمن ليعلم حق العلم أن لإتفاقيتي سنة 1899طابعاً غير رسمي ويدرك المجلس أيضاً أن هذه الإتفاقات تقوم علي أساس دعوي بريطانيا بأن يكون لها نصيب من إدارة السودان بحق الفتح ” ولهذا فإن مركزهما القانوني كان عرضة لكل شيئ بما يشمل الإلغاء وهو ما اقدمت مصر عليه فعلاً بإصدار القانون رقم 175 لسنة 1951 الذي قضي بإنهاء العمل بأحكام معاهدة 26/8/1936وملحقاتها وبأحكام إتفاقيتي 19 يناير و10 يوليو سنة 1899 بشأن إدارة السودان *(الكتاب الأخضر:السودان من 13 فبراير سنة 1841 إلي 12 فبراير سنة 1953 . رئاسة مجلس الوزراء المصري . القاهرة 1953) .

هناك قاعدة عامة مُتفق عليها وهي أن من له سلطة القرار له سلطة الإلغاء , ولما كانت القرارات الثلاث المعنية بوضع حدود إدارية بثلاث مواضع هي حلايب وبير طويل ونتوء حلفا علي خط عرض 22 درجة شمالاً الذي يمثل الحدود السياسية بين مصر والسودان , تُعد قراراات إدارية محضة أصدرها وزير الداخلية المصرية ولم تعرض حتي علي البرلمان المصري أو أي سلطة أخري , كما هي الحال في مسألة نقل سيادة مصر علي واحة الجغبوب لليبيا إبان الإستعمار الإيطالي والتي من المهم جداً بهدف المقارنة ولأغراض أخري أن نعرض لها لفهم الدافع البريطاني للإهتمام بمسألة الحدود الإدارية الثلاث علي خط 22 درجة شمالاً , فقد كان لمصر جق إلغاء هذه التصرفات الإدارية وهو ما حدث عندما قرر الملك فاروق الأول وحكومته أنه لا مفر من إتخاذ موقف صلب لا رجعة فيه ضد البريطانيين فيما يتعلق بالسودان فأصدرالقانون رقم 175 لسنة 1951 القاضي بإنهاء العمل بأحكام معاهدة 26 أغسطس سنة 1936 ومُلحقاتها وأحكام إتفاقيتي 19 يناير و10 يوليو سنة 1899, وهو ما يعني بصفة مباشرة لا لبس فيها إلغاء ما ترتب عليها وأستند علي هذا الوفاق كمرجعية ومنه تلك القرارات الوزارية الثلاث بشأن الحدود الإدارية لحلايب وبير طويل ونتوء حلفا , وظل الموقف هكذا حتي أصدارحاكم عام السودان في 21 مارس 1953قانون الحكم الذاتي والذي أعقبه توقيع مصروحكومة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمي وشمال آيرلندا بالقاهرة في 12 فبراير 1953 لإتفاقية “الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان” , وكان اعلان إستقلال السودان لاحقاً لإلغاء مصر للوفاق يناير 1899 وكذلك معاهدة 1936 مع بريطانيا وبالتالي فقد أُلغي ما كان مُترتباً عليهما , وبالتالي يمتنع أي حديث عن أي أثر للحدود الإدارية لهذه المناطق .

نموذجان للإستراتيجية البريطانية في رسم الحدود : حالتي الحدود المصرية مع فلسطين وليبيا

تزامنت عملية وضع حدود إدارية لمثلث حلايب ( تتراوح مساحته ما بين 20,580 كم مربع إلي 35,600 كم مربع أي ضعفي مساحة جزيرة قبرص بشقيها التركي واليوناني البالغة 9,251 كم مربع) وبير طويل ونتوء حلفا بين عام 1902 حتي عام 1909 مع تحرك بريطاني مماثل لتحديد الحدود المصرية مع فلسطين وليبيا , وسيظهر جلياً من عرض هاتين الحالتين أن المنهج العسكري الدفاعي هو الذي سيطر وساد إستراتيجية وضع وتعليم الحدود للمستعمرات البريطانية , وينطبق ذلك مع حالة إصطناع بريطانيا لما أسمته حدود إدارية فوق خط الحدود الدولية بين مصر والسودان مُمثلاً في خط عرض 22 درجة شمالاً علي إستقامته من النقطة الثلاثية لتلاقي حدود مصر والسودان وليبيا غرباً حتي البحر الأحمر شرقاً عند مثلث حلايب , وفي تقديري أن وضع حدود إدارية في حالتي بير طويل ونتوء حلفا لم يكن إلا تمويهاً أو Camouflage إصطنعته بريطانيا لإخفاء هدفها النهائي لإبتلاع مثلث حلايب لأنه إستراتيجي وبالغ الأهمية عسكرياً وخاصة للبحرية البريطانية العابرة من قناة السويس للهند وللمستعمرات البريطانية في شرقي أفريقيا والقرن الأفريقي فخلايب لها ساحل علي البحر الأحمر طوله 220 كم , والإجراء البريطاني بوضع حدود إدارية لمثلث حلايب لضمه للسودان وقت أن كان يتولي أمره الحاكم العام البريطاني تحت ظلال حكم ثنائي أنجلو مصري صوري كان إجراء يتعامل مع إستراتيجية بريطانية بعيدة المدي بموجبها يُسلخ السودان عن مصر المُتمسكة حتي 23/7/ 1952 بسيادتها علي السودان , وفي النهاية يتم إلحاق السودان بالمستعمرات البريطانية في أفريقيا الشرقية بعد أن يتم إقرار إلحاق حلايب رسمياً وتنازل مصر عنها كما فعل البريطانيين كما سنري تالياً في حالة تنازلها عن واحة جغبوب وأجزاء من العوينات لإيطاليا ثم آلت إلي ليبيا لاحقاً وهو ما جعل مصر في وضع إنكشاف عسكري من الغرب , أما في حالة حلايب فالخطة البريطانية لسلخها بدأت بمسرحية الحدود الإدارية لإقتطاع جزء من الساحل المصري علي البحر الأحمر وضمه رسمياً للسودان في المدي الزمني المناسب بعد إتمام خطة سلخ السودان عن مصر , وفي تقديري أن الإصرار غير الإعتيادي من جانب مصر علي التمسك بالسيادة علي السودان ثم إلغاءها لمعاهدة 1936 مع بريطانيا التي خرجت مُنهكة تماماً من الحرب العالمية الثانية عرقل تنفيذ هذه الإستراتيجية البريطانية التي لم يتبق منها الآن غير ما تولد من مشاعر سلبية علي الجانبين المصري والسوداني بسبب بريطانيا ومعظم السياسيين علي الجانبين , وفيما يلي بيان بحالتي الحدود المصرية مع فلسطين وليبيا :

(1) الحدود المصرية / الفلسطينية :

بعد حادث طابا الشهير بين تركيا ومصر وتوغل القوات التركية في الأراضي المصرية بإحتلال طابا في الأول من يناير 1906 لأسباب تعود للصراع الدولي والمسألة الشرقية وتحريكها من قبل القوي الإستعمارية الكبري وقتها , تدخلت كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا في هذه الأزمة بداعي الخشية من أن يؤدي هذا التصرف العسكري التركي في طابا الواقعة علي رأس خليج العقبة إلي تهديد سلامة قناة السويس , وأدي ذلك الضغط إلي إنسحاب العناصر العسكرية التركية عن طابا , وفي أعقاب الجلاء أو الإنسحاب التركي عنها في 14 مايو 1906 بدأ الإتجاه في مصر لترسيم وتعليم الحدود الشرقية , وبالفعل وبعد إيفاد لجنة ميدانية وُقع إتفاق أُرفقت به خريطة في الأول من أكتوبر 1906 بين مندوبي الدولة العثمانية والحكومة الخديوية في مصر كان موضوعه ” تعيين خط إداري فاصل ” بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء ” وهذا الإتفاق يشير نص المادة السادسة منه إلي أن ” جميع القبائل القاطنة في كلا الجانبين لها حق الإنتفاع بالمياه حسب سابق عاداتها أي أن القديم يبقي علي قدمه فيما يتعلق بذلك وتُعطي التأمينات اللازمة بهذا الشأن إلي العربان والعشائر وكذلك العساكر الشاهانية وأفراد الأهالي والجندرمة ينتفعون من المياه التي بقيت غربي الخط الفاصل ” , وبعد ذلك طرأت علي مصر وفلسطين تغيرات رئيسية , فمصر تفجرت فيها ثورة شعبية عام 1919 إشتد أوارها إلي أن حصلت علي إستقلالها بموجب تصريح 28 فبراير 1922 , أما فلسطين فقد حل البريطانيين محل العثمانيين فيها بإعلان إنتدابهم علي فلسطين فعلياً عام 1920 وهو ما أقرته عصبة الأمم رسميا في 21 سبتمبر 1922, ورأت الإدارة المصرية أن الوقت قد حان لتعترف القوة الجديدة صاحبة الإنتداب علي فلسطين أي بريطانيا بالخط الفاصل بين مصر كخط للحدود الدولية وكانت بريطانيا في حاجة لإعتراف القاهرة بوضعيتها في فلسطين والعراق لتحديد أبناء البلدين الذين يجيئون لمصر , وعليه فقد إشترطت حكومة زيور باشا أنه لتقديم هذا الإعتراف فلابد أن تقر بريطانيا بخط الحدود الذي رُسم عام 1906 , وبالفعل وجهت الحكومة البريطانية خطاباً رسمياً عام 1926 لرئيس الوزراء المصري عبد الخالق باشا ثروت مُتضمناً الإقرار , بعد ذلك بخمسة اعوام وفي 27 نوفمبر 1931 طلبت مصلحة المساحة الفلسطينية من مصلحة المساحة المصرية إفادتها بشبكة الإحداثيات لعلامات الحدود بين البلدين لتحديد دقيق لمواقع بعينها لخطوط الطول والعرض لكل دولة , وقد ردت المساحة المصرية في 6 ديسمبر 1931 بالمطلوب ثم وافقت الإدارة البريطانية والمصرية معاً بصفة رسمية علي جعل الخط الإداري الفاصل بين مصر وفلسطين خطاً للحدود الدولية بالرغم من إنتشار وتوزع القبائل علي جانبي الحدود .

يُلاحظ هنا في هذه الحالة أن مصر أصرت رسمياً علي تحويل الحدود الإدارية مع فلسطين إلي حدود سياسية وكان لها ما أرادت رسمياً , إلا أنه في حالة حدودها الجنوبية مع السودان في حلايب وبير طويل ونتوء حلفا لم يُتخذ في أي وقت إي إجراء رسمي يُعتد به لتحويل هذه الحدود الإدارية لتكون حدود سياسية .

(2) الحدود المصرية / الليبية :

تفسر هذه الحالة بشكل أوضح من غيرها العقلية البريطانية في ترسيم الحدود لمستعمراتها , وبيان هذه الحالة يؤُكد بالإضافة إلي ما سبق بيانه تهافت السبب الذي من أجله أقدم البريطانيون علي دفع وزير الداخلية المصري لإتخاذ ثلاثة قررات إدارية لوضع حدود إدارية لمناطق حلايب / بير طويل / نتوء حلفا الواقعة علي خط عرض 22 درجة شمالاً وهو خط هندسي فلكي و, وبررت بررت إجراء حدود إدارة بأنه لإدارة العربان , ومن خلال عرض هذه الحالة سيمكن إلي حد كبير كشف الدافع البريطاني المُحرض علي وضع و / أو تعديل حدود مُستعمراتها , وبالرغم من كثرة التفاصيل المختلفة لهذه الحالة إلا أنه يمكن إيجازها فيما يلي :

بعث القائم بالأعمال البريطاني في تركيا بمذكرة للحكومة العثمانية بتاريخ 19 نوفمبر 1904 بإقتراح من اللورد كرومر مندوب بريطانيا السامي في مصر تضمنت هذه العبارة : “مما لا جدال فيه أن حدود مصر الغربية تبدأ من رأس جبل السلوم ثم تتجه إلي الجنوب والجنوب الغربي لتضم سيوة وجغبوب , وحتي الآن لا توجد نقطة لتركيا قرب الحدود المصرية إلا ميناء طبرق علي بعد 60 ميل غرب السلوم ” , وبعد ثلاث اعوام بعث السفير الإيطالي في لندن بمذكرة لوزير خارجية بريطانيا عام 1907تضمنت هذه العبارة ” إن الحكومة الإيطالية تعلن أنها تعتبر الحدود تبدأ بالخط الذي يمتد من الساحل في رأس بولان بحيث يضم المنطقة الواقعة غرب خط خليج السلوم وحتي جغبوب (شمال غرب سيوة بنحو 125 كم و240 عن السلوم ) والكفرة بأكملهما ” , ويعني ذلك إخراجهما من حوزة مصر , وواصلت إيطاليا تطلعها لتعديل الحدود مع مصر التي عين واليها محمد علي باشا حاكماً مصرياً للواحة التي لُونت دائماً باللون الذي لُونت به مصر بالخرائط , وكان هناك في البداية تباين بين الموقفين البريطاني والإيطالي من هذه المسألة فبريطانيا رأت أن أي هجوم علي مصر سيكون عبر جغبوب التي إن أُحتلت هُددت سيوة ويمكن للمهاجمين الإلتفاف علي القوات المُدافعة عن الساحل ويكون الطريق مفتوحاً لمهاجمة مصر الوسطي والفيوم من طريق الواحة البحرية , وأن هناك خطان للزحف علي مصر من الغرب الأول : خط الطريق الضيق المُنزرع علي الساحل وبه مياه صالحة للشرب يمر بالسلوم ومريوط , والثاني يخترق سلسلة الواحات التي تبدأ بواحة أوجيلة وجالو في ليبيا وبعدها الجغبوب بمصر بعدها يتفرع شرقاً بإتجاه وادي النيل , وقد وقعت بريطانيا إتفاقاً عُرف باسم تالبوت مُمثل الجانب البريطاني مع السنوسي في 14 أبريل 1917 نصت مادته الرابعة علي تولي السيد إدريس السنوسي إدارة واحة جغبوب الداخلة في الأراضي المصرية بالوكالة , بالإضافة إلي شروط أخري , كذلك فقد إعترف السنوسي في إتفاق الزويتينة بأن جغبوب جزء من مصر, أما إيطاليا فرأت في الجغبوب خطورة حربية علي إستقرار إستعمارها لليبيا إذ كان تهريب الأسلحة والمؤن للثوار الليبيين يمر عبرها , وفي هذه الظروف بادرت القوات الإيطالية بإحتلال ميناء البردية الواقع علي بعد 14 كم غرب السلوم وهو جزء من هضبة السلوم المصرية ولم تسترده مصر , وأستمرت مناورات إيطاليا وبريطانيا حتي وصل وفد إيطالي لبريطانيا في 24/11/1919لبحث تعديل الحدود المصرية الليبية وأصر الطليان علي عدم إستشارة مصر , ورغم ذلك أشارت مذكرة لوزارة الحرب البريطانية في 28 /3/1917 إلي أن بقاء جغبوب مهم جداً من الوجهة الإستراتيجية , لأن جميع الطرق من الغرب والشمال الغربي تلتقي بها ثم تتجه إلي سيوة وتنفتح أمام القوات المُهاجمة الواحات الأخري ومصر السفلي حتي البحر الأبيض فهي بهذا المعني بوابة مصر الغربية التي ميناءها الطبيعي السلوم , وتأكيداً لذلك رفعت رئاسة أركان حرب القوات البريطانية مذكرة مُؤرخة في 19/6/1919 أشارت فيها إلي أن النقاط الهامة فيما يتعلق بتحديد الحدود مُستقبلاً هي (1) دخول قطاع كاف من الأراضي غرب السلوم ضمن حدود مصر لإعطاء عمق للدفاع عن السلوم و(2) إدخال واحة الجغبوب والآبار الواقعة غربها ضمن الحدود المصرية كأفضل دفاع لأي تحرك يستهدف سيوة من الغرب , وأستمرت المفاوضات والمراسلات بين بريطانيا وإيطاليا حول المسألة وكادا أن يصلا لإتفاق لولا أن بريطانيا أصدرت في 28/2/1922 تصريحها الشهير المُتضمن إعلان إستقلال مصر , وبالتالي أصبح لزاماً علي إيطاليا التسليم بهذا الواقع , وفي أواخر 1923 تقدم موسيليني بقواته لإستكمال إحتلال عموم ليبيا وهُزم السنوسي الذي لجأ لمصر ومعه ألوف من الليبيين , وأحتل الطليان جغبوب وأرسلت مصرفي 18/6/1923إحتجاجاً لمفوضية إيطاليا بالقاهرة , وجرت مفاوضات إيطالية مصرية حول مسألة جغبوب والحدود الغربية لمصر التي مارست إيطاليا علي حكومتها الضعيفة ضغوط شديدة بل وصل الأمر إلي إنذارها , لكن حتي مايو 1925 لم تحرز هذه المفاوضات تقدماً يُذكر , وقال زيور باشا في هذه الأثناء : “بما أن مصر ستفقد جغبوب فإني أفضل أن أراها تُؤخذ بالقوة من أن أسلمها كرئيس حكومة وهذا رأي معظم زملائي ” وليته كان عند قوله , علي أية حال أستؤنفت المفاوضات في 18/5/1925 بعد إنقطاع وطلب الجانب المصري وضع أسس للتفاوض وهو ما قُوبل برفض إيطالي , وكُلف ضابط بريطاني يدعي بيلي (كان محافظاً للصحراء الغربية) بإعداد تقرير ميداني عن حغبوب والسلوم وهو ما حدث , وتضمن تقريره : ” إن جغبوب مفتاح الدفاع عن مصر عن طريق سيوة وهي آخر مركز للتزود بمياه الشرب ومن العبث القول أنه إذا صمدت السلوم فلن تجرؤ أية قوة علي غزو مصر من طريق جغبوب أو سيوة فمصر لن تستطيع الإحتفاظ بالسلوم أبداً وحدها إذ يمكن لقارب واحد أن يمزق دفاعاتها , وإذ سُلمت جغبوب لإيطاليا فسيعتبر العرب أن بريطانيا خانت إتفاقية تالبوت وخانت العهد وفقاً للإسلام ” , ودخل الملك فؤاد علي الخط وكان في صراع مع قوي الثورة بقيادة سعد زغلول فعرض علي البريطانيين صفقة بشأن جغبوب مقابل دعم بريطانيا السياسي له في صراعه وهو ما رفضه البريطانيون , وفي النهاية ومع التدخلات والضغوط والمقايضات البريطانية مع الإيطاليين وقع زيور باشا رئيس الوزراء ووزير الخارجية ونجرتو كاميازو الوزير المفوض الإيطالي إتفاقاً تضمن 10 مواد بالقاهرة في 6 /12/1925 تنازلت مصر بموجبه ليس عن جغبوب فحسب بل عن هضبة السلوم الُمرتفعة بنحو 300 متر التي تمتد غرباً حتي ميناء البردية مما يجعل ليبيا مُسيطرة عسكرياً علي ميناء وخليج السلوم ويكشف منخفض القطارة , وبذلك أنتُزعت من مصر بموجب الإتفاق جبال وواحة أركنو وربع واحة العوينات , وكان مجمل ما تنازل عنه زيور باشا لصالح الإيطاليين 40 ألف ميل من أرض مصر التي سبق لوزارة بطرس غالي في مصر فيما بين يناير 1899 حتي 1902 التنازل بسهولة عن حلايب ونتوء حلايب حتي وإن كان ذلك تحت دعاوي أنها حدود إدارية قابلة للإلغاء في أي وقت وليست سياسية دولية , ولم تعرف مصر بالملحق السري لهذه الإتفاقية المُوقعة مع إيطاليا إلا في فبراير 1926 عندما صدر الكتاب الأخضر عن رئاسة مجلس الوزراء , وكان رد الفعل الشعبي عنيفاً إذ صدرت الصحف المصرية مُجللة بالسواد تنعي قطعة من أرض مصر ووجهت الصحف اللوم الشديد لبريطانيا التي تعهدت في تبليغ 28 فبراير بإحتفاظها بحق الدفاع عن مصر , وفي نهاية هذه المأساة وبعد تسويف وتباطؤ مصري وضغوط بريطانية /إيطالية وافق مجلس الشيوخ المصري في 28/6/1932علي هذه الإتفاقية أو العار بأغلبية 59 صوت مقابل صوتين , ولم تكتف إيطاليا بكل هذه التنازلات المصرية فاقدمت قواتها داخل مصر لتلتهم جزء من واحة عين النور بالعوينات ثم تنازلت بريطانيا للإيطاليين في 20/7/1934عن النصف الغربي من هضبة العوينات بما في ذلك واحتي عين داوة وعين زويرة وآبار سارة ولم يتبق لمصر من الهضبة سوي كركورة مر ووادي طمل ووافقت علي ذلك التنازل كل من بريطانيا ومصر بمذكرتين في 20/7/1934 .

إتصالاً بما تقدم أعتقد أنه مازالت هناك صعوبات مختلفة تحول دون التوصل لحل تفاوضي إن لم يكن سياسي لنزاع حلايب , فبالرغم من الإعلان عن وإنشاء “اللجنة الفنية لبحث مشكلة حلايب “أثناء زيارة اللواء / الزبير محمد صالح نائب رئيس مجلس ثورة الإنقاذ ونائب رئيس الوزراء للقاهرة في10/2/1992ولقاءه بالرئيس المصري وإنعقاد أول إجتماع لها بالقاهرة في 16 مارس 1992 برئاسة د أسامة الباز وكيل أول وزارة الخارجية , ثم الإجتماع الثاني بالقاهرة في الفترة من 27 إلي 31 أكتوبر 1992 فالإجتماع الثالث والأخير بالخرطوم في الفترة من 22 إلي 24 فبراير 1993 , بالرغم من كل هذه الإجتماعات التفاوضية لم يُحل النزاع , لأنه في تقديري أنه وبعد الإنتشار العسكري المصري للسيطرة علي حلايب في مارس 1992 كان لابد للبلدين كل وفقاً لإعتباراته فتح ثغرة في الجدار الفاصل بينهما لتجنب الخيار العسكري الذي سيكون سابقة غير مقبولة نظراً للطبيعة شديدة الخصوصية التي كانت تميز علاقتهما التي تآكلت , لهذا كانت هذه الإجتماعات بلا نتيجة لأسباب منها إفتقاد الإرادة السياسية وإفتقاد المفاوضين لصلاحيات إتخاذ القرار , ولهذا فستظل حالة بير طويل فريدة في بابها لأجل غير مُسمي لأنها نزاع بلا متنازعين يحل فقط وتلقائياً بحل معضلة حلايب .

قد تستخدم الولايات المتحدة تأييدها لموقف السودان في نزاع حلايب مقابل التطبيع مع الصهاينة

زار الملحق العسكري بالسفارة الأمريكية بالخرطوم في 13 ديسمبر 2020 يُرافقه بعض أعضاء السفارة هيئة الموانئ البحرية ببورتسودان وهناك التقوا بإدارة الهيئة وتفقدوا الموانئ للتنسيق والترتيب لاستقبال سفن أمريكية في مارس2021, ووفقاً لأنباء متواترة أهدى الملحق العسكري الأمريكي بالسودان ميدالية التعاون السوداني الأمريكي وعليها شعار الملحقية العسكرية الأمريكية وتظهر فيها خارطة السودان مُتضمنة حلايب مع خلفية بها العَلَمين السوداني والأمريكي , ولأن مصدر الخبر مواقع غير رسمية كوكالة الأنباء السودانية الرسمية , لذا هناك ثمة شك في صحة الخبر إذ يمكن أن يكون الشعار وخلفيته خريطة السودان مُتضمنة حلايب كانت بالهدية التي قدمتها هيئة الموانئ السودانية للملحق العسكري التي كانت عبارة عن درع وشعار الهيئة .

تناولت الولايات المتحدة النزاع بين مصر والسودان أحياناً بحذروأحياناً بسوء طوية بناء علي المصلحة القومية للولايات المتحدة وليس بالضرورة علي الحق والباطل , وفي ضوء ذلك ووفقاً لوثيقة أمريكية صادرة عن القسم (أوالإدارة) الجغرافية بالخارجية الأمريكية عنوانها : “دراسة عن الحدود الدولية” مكتوب عليها بخط اليد رقم 327 Maps ورقم آخر مطبوع هو : 18 بتاريخ 27 يوليو 1962, أُودعت بمكتبة إحدي الجامعات الأمريكية بتاريخ 14يناير 1965(كما هو مُبين بغلاف كل دراسة) , خلصت هذه الدراسة فيما يتعلق بحالة أو وضع الحدود المصرية / السودانية في مناطق حلايب وبير طويل أو شبه منحرف بارتازوجا ونتوء حلفا إلي ما يلي نصه :

” لم يُعرف أن هناك ثمة مفاوضات مُتقدمة تتعلق بالحدود بين الجمهورية العربية المُتحدة(مصر) والسودان في الوقت الحالي . ولأغراض عملية رسم خرائط الحدود نعرض التوصيات التالية :

(1) الحدود في نتوء وادي حلفا يجب أن تظهر علي أنها حدود دولية ( لا حدود يجب إظهارها بموازاة خط عرض 22 درجة في أقصي جنوب النتوء ) , (2) من المُفضل إظهار الحدود الدولية والإدارية علي الخريطة (فيما يتعلق بالحالة الأخيرة يجب أن يكون مُسماها :”حدود إدارية”) , (3) عندما لا يضمن مقياس الخريطة أو يسمح باستخدام كل من الحدود الدولية والإدارية , فإن الحدود الإدارية يجب إظهارها “.

تأكيداً لخلاصة هذه الدراسة أشير إليأنني حصلت خلال فترة خدمتي الدبلوماسية في غينيا /كوناكري 1981 – 1985 علي مجموعة من الخرائط الأمريكية للدول الأفريقية كان من بينها خريطة عن منطقة أسوان والجزء من الصحراء الشرقية المصرية الواقعة به حــلايــب وهي صـــادرة عن :

Army Map Service(L.U), Cors of Engineers, U.S Army ,Washington , D.C 1969

وتظهر فيها الحدود الدولية بين مصر والسودان مستقيمة بخط عرض 22 درجة شمالاً مع بيان الحدود الإدارية لحلايب وبير طويل ونتوء حلفا بنقاط مُتقطعة .

لكن من جهة أخري فالولايات المتحدة سبق لها أن أقدمت علي إشعال النزاع ذات مرة حين حاولت شركة TEXAS EASTERN الأمريكية العمل في مناطق حلايب وشلاتين مع أن هذه الشركة وغيرها تعلم تماماً أنها منطقة مُتنازع عليها , حينها سارعت وزارة الخارجية المصرية إلي توجيه مذكرة شديدة اللهجة للسفارة الأمريكية بالقاهرة في 4 نوفمبر 1980أفادتها فيها ” بأن هذه الشركة الأمريكية تقوم بإجراء مساحة جيولوجية وجيوفيزيقية وعمل خريطة للمنطقة بواسطة القمر الصناعي وكذلك عمل مساحة جاذبية ومساحة سيزيمية بحرية , وأن ذلك يتم دون الحصول علي الترخيص اللازم من السلطات المصرية المُختصة وفقاً للقوانين المصرية ” وأشارت المذكرة إلي أنه ” ونظراً لأن هذه المناطق التي تجري فيها هذه الأعمال مناطق مصرية تخضع للسيادة المصرية , فإننا نطالبكم بضرورة تنبيه الشركة الأمريكية المُشار إليها بوقف هذه الأعمال فوراً والإمتناع عن أي عمل من هذا القبيل مستقبلاً , وإلا أضطرت السلطات المصرية المختصة إلي إجراءات شديدة في مواجهتها فضلاً عن تحميلها كافة النتائج القانونية والتعويضات المُترتبة علي ما ترتكبه من أعمال غير مشروعة” , وبطبيعة الحال فهذه الشركة إنما قامت بما قامت به بإذن من السلطات السودانية , والجانب الأمريكي يعلم تمام العلم بأن منطقة حلايب التي حاولت هذه الشركة العمل فيها مُتنازع عليها بل يعلم كذلك أن الحدود السياسية محددة بخط عرض 22 درجة شمالاً .

تنتابني خشية من أن تكرر الإدارة الأمريكية الحالية وربما القادمة مع السودان ما فعلته مع المغرب الذي قرر في ديسمبر 2020 توقيع إتفاق للتطبيع الكامل مع الصهاينة , وكان المقابل المُعلن إعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء وهو ما عده المغرب علي المستوي الرسمي مكسباً أحرزه جلالة الملك محمد السادس , فيما الواقع والتزامن بين الحدثين يؤكد أنها عملية مقايضة غير مسبوقة وغير متوازنة كان ثمنها غال فالثمن كان القضية الفلسطينية , فلم لا تقترف الولايات المتحدة نفس الإثم وتعترف بسودانية حلايب (أو مصريتها وهو مُستبعد غالباً) مقابل التطبيع التعاهدي للسودان مع الصهاينة الذي تباطئ لأجل مُسمي بين طرفيه , فمصر ليست بحاجة للتطبيع فهي قد أدت دور قابيل بتوقيعها في 26 مارس 1979معاهدة للسلام مع الصهاينة قتلت بها أو كادت أن تقتل هابيل , ونرجو من الله تعالي إن تكون تنازلات العرب بأثمان عربية وليس بأثمان تحددها تسعيرة الأمن القومي الأمريكي لحساب المنتفع الأوحد : الكيان الصهيوني .

القاهرة في 24 ديسمبر 2020