استراليا كوليت سركيس
في محاضرة للفنان والناقد أديب مخزوم ..
"واقعية الكم" ترسم الخطوط اللونية للطاقة النووية ..
في محاضرته التي القاها الفنان والناقد التشكيلي أديب مخزوم، في صالة الرواق بدمشق، تحت عنوان " إشكالية واقعية الكم " أشار إلى أن واقعية الكم فرضية أو دراسة في شكل جديد من الفن ، هو فن العصر التكنو ـ نووي، ولقد نشأت هذه المدرسة وتطورت منذ أواسط عام 1967. وأول فصل رأى النور، هو الفصل الذي صدر باللغة الإنكليزية عام 1971 ، على شكل " بيان الفن الجديد لواقعية الكم " ( براغ 1971) والذي أثار ردود فعل عنيفة ومختلفة ومتضادة في أماكن عديدة من العالم. 
الفن الواقعي والتجريد البدائي
وفي عودة تاريخية الى فنون العصر الحجري قال :أن الفن في كل مراحله كأن تعبيرا للانشغال الفكري ،بداية الفن في العصر الباليوليثي تعكس هذه الحقيقة، فالفنان في تلك المرحلة كان هو الفنان العالم. ومع تطور وسائل الإنتاج وظهور الانفصام بين العمل اليدوي والفكري، جرى انفصام تدريجي بين العملية الفنية والممارسة العلمية في العصر النيوليثي، منوهاَ الى أن فن الكهف في التاميرا – اسبانيا أو في مغارة لاسكو- جنوب فرنسا، هو فن يصور العالم الحيواني بشكل استثنائي، وهو فن يضاهي في حيويته وواقعيته فن النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ووجد أن هناك تماثلاً بين تحول الفن الباليوليثي الواقعي لإنسان العصر الحجري القديم، إلى التجريد الهندسي للفن النيوليثي، وبين تحول فن القرن التاسع عشر الواقعي ، إلى تجريد القرن العشرين الهندسي . 
وهذا يعني أن الفن في كل مراحله كان تعبيرا للانشغال الفكري، إذن فن الدورة التكنو- نووية الجديدة، ينبغي أن يكون تعبيراً للانشغال الفكري الجديد. وأضاف: هذه العلاقة المتواصلة عبر العصور بين الفن والانشغال الفكري، هي التي وجهت الفنان والباحث الراحل محمود صبري، إلى ابتكار فن واقعية الكم. إنه فن واقعي، رغم مظاهره التجريدية الهندسية، لأنه يصور حقائق مادية واشعاعية موجودة في الواقع .
ومما قاله: في عصر النهضة جرى إدراك هذه الصلة الوثيقة، تدريجياً بين الفن والعلم، حيث نجد المؤرخين يطلقون اسم الفنان العالم، على كثير من فناني عصر النهضة، الذين مارسوا الفن والعلم، وأفضل مثال هنا " ليوناردو دافنشي " كما أن " كو نستابل " كان يتحرى الطبيعة وحالة الجو، كأي عالم قبل رسمها. وركز على " سورا " وقال بأنه الفنان الأكثر تأثراً بالعلم بين فناني الربع الأخير من القرن التاسع عشر عبر البرنامج الذي بلوره في النظرية التجزيئية أو التنقيطية، والتي تجاوزت تلقائية الانطباعية وحسيتها المباشرة، إلى نظام عقلاني دقيق . وتوقف عند الفرنسي " بول سيزان " منوهاً الى أنه أعطى المتانة للانطباعية، باحثاً عن الجوهر الكامن خلف المظاهر . وهكذا كانت لحظة سيزان، إحدى اللحظات الفريدة في تاريخ الفن، التي يتحقق فيها الامتزاج الديالكتيكي، بين الحقيقة الحسية والفكرية .
"سيزان" شكل نهاية لتقاليد فنية بكاملها على مر كل العصور. غير أنه شكل أيضاً بداية لتقاليد جديدة في الفن – تقاليد علمية، لا تعترف إلا بمادية الطبيعة فقط.وبذلك فتح الطريق أمام تكعيبية بيكاسو وبراك ، الذين انطلقا من انجازات "سيزان" .
وهكذا تحول الفن من تصوير الواقع المرئي، الى البحث عن جوهر ومادية الأشكال .. ثم انتقل لتوضيح الأسس التي قامت عليها واقعية الكم ، كما جاءت في بيان مؤسسها محمود صبري ، وهي تتألف من:
1- الكم 2-الذرة 3- العمليات التركيبية
1-الكم : العنصر الأساسي لواقعية الكم .
أنه الوحدة الأولية للطاقة ( اللون ) وهو العامل الأساسي المكون للكون المرئي .الأطوال الموجية للضوء المرئي تعطي ( مقاسة بوحدات الانغستروم ) تعطي حوالي 4000 خط لوني ، تستخدم منها واقعية الكم حوالي 600 خط لوني تمثل الأطياف المختارة للذرات ال 92 . ان حجم الكم يتناسب دوماً عكسياً مع طول الموجة ، وطردياً مع التردد وفقاً للمعادلة المعروفة : ط = ح ت ( حيث يرمز ط الى طاقة الكم ، ت التردد، ح ثابت بلانك ) وهكذا فإن هناك اتجاهاً لازدياد حجم الوحدة اللونية ، اذا ما ابتعدنا من النهاية الحمراء الى النهاية البنفسجية في الطيف الشمسي ، فيصبح الأحمر حداً أدنى والبنفسي حداً أعلى في القيمة اللونية . لذا فإن هناك اتجاهاً لازدياد درجة الوحدة اللونية إذا ما ابتعدنا من النهاية الحمراء إلى النهاية البنفسجية في الطيف الضوئي، نظراً لأن الخطوط الدنيا تقترب من النهاية الحمراء (هذا مبدأ أساسي في الطبيعة) .
2-الذرة: وحدة التركيب الأساسية في واقعية الكم .
الذرة في واقعية الكم وحدة من الطاقة " ظاهرة تموجية" أنها تركيب مكون من مجموعة من الكمات ، ولهذا فإن كل وحدة تركيبية تحدد بالخطوط اللونية التي تتألف منها ، فمثلاً الهيدروجين يتميز بطيف مرئي من 8 خطوط لونية يتم اختيار أشدها حساسية . واقعية الكم تتعامل بشكل أساسي مع المادة كوحدات من الطاقة الضوئية ، ولهذا فالرسم ببعدين هو الصحيح .
3-العمليات التركيبية لواقعية الكم .
انها المعادل البلاستيكي للعمليات الكيميائية في الطبيعة ، في الطبيعة 92 نوعاً من الوحدات الذرية ، ان رسم مثل هذه الوحدات الملونة في تفاعلاتها هو المطلوب في واقعية الكم، وبهذا المعنى فواقعية الكم هي فن يرسم الظواهر الطبيعية بطريقة تختلف عن جميع الفنون السابقة . فالماء على سبيل المثال لايرسم كما نشاهده في الواقع ، وانما يرسم كنتيجة طبيعية وحتمية لتفاعل جزيئين من الهيدروجين وواحد من الأوكسجين . أو حسب العملية الكيميائية التي تحدد تكوينه H2O وهكذا نصل الى تراكيب وعلاقات لونية مغايرة ومثيرة ، وواقعية الكم في ذلك تردم الهوة الشاسعة التي تفصل بين العلم والفن . الإنسان يستطيع أن يتابع من خلال لوحات واقعية الكم مايجري في أعماق الطبيعة من ظواهر فيزيائية وكيميائية . الطبيعة غير المرئية تصبح مرئية للإنسان ، وعند ذلك سيكون هناك فن علمي أو علم فني للإنسان . وبذلك ستظهر بشرية جديدة، يكون هذا الفن نقطة الانطلاق لها .
واقعية الكم وموندريان – التقاء وانقطاع
المعروف أن " موندريان " انطلق من التعامل مع الواقع كفكرة مطلقة ،وهذه الفكرة المطلقة عبروا عنها ، من ناحية الألوان، بثلاثة ألوان أساسية وهي (الأزرق - الأحمر- والأصفر)ومن ناحية الشكل بالخطوط المتعامدة ،النقيضان الأساسيان هما خط القوة الأفقي – خط سير الأرض حول الشمس .والحركة العمودية للإشعاعات الساقطة من الشمس على الأرض اللون الأصفر هو حركة الشمس،الأزرق هو نقيض الأصفر وهو لون الحركة الأفقية للأرض ،والأحمر هو التزاوج بين اللون المعبر عن الشعاع واللون المعبر عن حركة الأرض . لقد اختزل كل الكون إلى هذه الألوان الثلاثة ،وهذه الخطوط المتعامدة .التجريد الموضوعي إذن لم يفقد صلته بالواقع .
بالنسبة للوحات واقعية الكم هناك تشابه بينها وبين لوحات "موندريان ، ولكن بدلا من اعتبار الكون مكونا من ألوان ثلاثة ، اعتبر الكون ماديا مكوناً من مجالات كهرومغناطيسية وبالتالي من ألوان لانهاية لها. قسم منها منظور وقسم منها غير منظور .وبدلا من اعتبار العلاقات المتعامدة هي علاقات تربط بين الشعاع الساقط من الشمس إلى الأرض وحركة الأرض حول الشمس أخذت المجال الكهرومغناطيسي والوحدات المكونة له ،وانطلقت من العلاقة الرئيسية التي ترتبط بها هذه الوحدات مع بعضها البعض ووجدت بأن كل كم يحتوي ضمنا ،بكونه مجالا مغناطيسياً ومجالاً كهربائياً ،على علاقة متعامدة ،العلم يقول أن في كل كم،في كل موجة كهرومغناطيسية هناك مجال مغناطيسي يقف في علاقة متعامدة، مع المجال الكهربائي ،وهاتان العلاقتان تكونان أيضا متعامدتين في اتجاه مسار الموجة ،عندنا إذن ثلاث علاقات متعامدة مع بعضها البعض ،المجال الكهربائي - المجال المغناطيسي - اتجاه مسار الموجة .
وبالرغم من أنه جعل الفن خاضعاً لقوانين الاتزان المادية الفيزيائية والرياضية والكيميائية . إلا أنه يؤكد بأن الفن في تفاعله مع العلم ، يعيد دورة الفنون والحضارات، التي عرفتها الشعوب على مر كل العصور القديمة والحديثة .
ويذكر أن مؤسس مدرسة واقعية الكم محمود صبري، أنهى دراسته في لندن في نهاية الأربعينات، وتميزت لوحاته، في مراحله السابقة، بالتشكيل التعبيري الملتزم والمرتبط بالمواضيع الاجتماعية والإنسانية، ولقد رحل في لندن بتاريخ 13-4-2012 ، وتم تشييعه في عاصمة الضباب، بموكب مهيب يليق بالمبدعين، القادرين على الديمومة والبقاء والخلود والاستمرار .
