2018/11/19

مديرة مكتب الشبكة العربية في تونس ايناس سلامي : محاولة في تفكيك حقيقة اليوم ...كل الدروب تؤدي الى العبث والعدم ... من يقود السفينة وفي اَي اتجاه ...




محاولة في تفكيك حقيقة اليوم



يبدو اليوم أنّ العالم كما قال الفيلسوف ماكس فيبر قد صار فعلاخاليا من السّحر و التّشويق و المعنى .. فكلّ الأبواب لا تفتحُ إلّاعلى الفراغ .. 
و كلّ الدّروب لا تؤدّي إلّا إلى العبث و العدم ..
نحن نعيش في عالم جديد .. لا نعرف فيه ماذا نريد تحديدا ؟؟ إلىأين نمضي ؟؟ من يقود السّفينة و في أيّ آتّجاه ؟؟ .. نشعرُ بغربةٍ هائلة .. نحقّق نجاحاتٍ كثيرة هنا و هناك ثمّ لا نشعرُ بطعم حقيقيلأيّ نجاح .. نركضُ فقط لنملأ الحاضر ببعض الملذّات الصّغيرة والعابرة .. و هي عموما ملذّات لا تمسّ جوهر أحلامنا .. و لا علاقةلها أصلا بحقيقة وجودنا .. لذلك نسقطُ دوما في الفراغ المُريعلغياب المعنى ..
نحن أقربُ اليوم للآلات البشريّة .. فقد وقع تفكيكُنا .. و تعديلُنا .. و توجيهنا بدقّة هائلة صوب أوثان العالم المعاصر : المال و الجنس.. تلك الأصنام الّتي تدور حولها كلّ أمجادُنا الكاذبة تقريبا ..
يبدو لي التاريخ المعاصر صيرورة طويلة لآنتصار الغريزة علىالعقل .. و آنتصار الطبيعة على الروح .. حيثُ يظهرُ لي جليّا أنّ العقل لم يعد يحكمُ شيئا .. إنه فقط صار خادما مُطيعا لدى الغرائزالأكثر وحشيّة و آنحطاطا .. إنه يقدّم المبرّرات و يصنعُ المناخاتالّتي يمكن من خلالها للغرائز أن تزدهر و تنمو و تتحكّم ..
التّقنية نفسها صارت مجالا مُخيفا لتسطيح الإنسان .. إنها حالةفناء روحي صامت .. أدخلُ للمقاهي ، للمنازل .. في الشوارع .. فأرى الناس غارقة تماما في هواتفها الذكيّة .. حيث تمتلأ المواقعالإجتماعية بالصور و السخافات .. و نادرا ما نعثرُ على فكرة ما .. أفقًا ما .. روحًا ما .. ( إنه عالم الصّورة ضدّ عالم الفكرة .. عالمالبصر ضدّ عالم البصيرة ) ..
أذكر قولة لزيجمونت باومن .. يقول فيها أنّ حال البشريّة اليوم مثلمسافرين داخل طائرة .. مسافرين لا يعلمون أنّ غرفة القيادةصارت فارغة .. ربّما مات الطيّارون أو آنسحبوا .. لكننا فيالنهاية نمضي رويدا رويدا نحو الفوضى و الهلاك ..
أمس في مقهى قريبا من مركّب الجامعات .. كنتُ أنظر بحزنللسيّارات تحمل الطّالبات إلى معابد الجنس .. فكّرتُ كثيرا أنّ تلكالصورة ربما تختصر معنى الوجود في عالم اليوم .. إنهم رجالصيّادون يأتون بنيّة التسوّق الغريزي .. إنهم لا يحملون أيّ عاطفة أو فكرة أو خلاص لتلك الفتيات .. يقدّمون فقط سيّاراتهم وأناقتهم و أموالهم كإغراء .. كفخّ جذّاب للغزلان الشّاردة .. أمّاالفتيات فلا يملكنَ أيضا ما يقدّمونه خارج أجسادهنّ المطليّةبالماكياج .. أجسادهنّ العارية و المضغوطة ..
يبدو لي عالم اليوم يتعرّى تماما في تلك الصورة : أموالك مقابلجسدي .. المال و الجنس .. و يبدو الطّرفان مُتّفقين دون حوار طويل.. كلّ منهما يفهم الآخر جيّدا .. ثمّ حدث أن تسائلت : هل سيكونبينهما حوار ما ؟؟ حبّ ما ؟؟ خلاصٌ ما ؟؟
طبعا ستقولون أنّ هذه حالات معزولة .. لكنّي لا أريد تطوير المسألةلأسرد حالات أخرى في مناخات مختلفة .. فالأمر متشابه في كلّ مكان في النهاية .. و لقد سبق لعالم النّفس الشهير إيريك فروم أنقال : " إنّ إنعدام الروح في الحضارة المعاصرة هو أكبر عمليّةآغتراب بشرية على الإطلاق " .
هل سيشعر أولئك الرجال الصيّادين بالإمتلاء .. بالإكتفاء ؟؟ .. هلستشعر تلك الفتيات بالسعادة و الرّضى ؟؟ .. هل ستزدهرُ أرواحهنّ ؟؟ هل سيجدون المعنى العميق الذي تجوع له النفس دوما؟؟ هل سيجدون بعد كلّ مغامرة ذاك الإحساس الفظيع بالفراغ والعبث و النّدم ؟؟
إنهم في النهاية مساكين و ضحايا .. مساكين لأنهم لا يدركونحتّى أنهم يتخبّطون داخل متاهة العولمة .. و ضحايا لأنهم لايجدون في هذا العالم المتوحّش أيّ خلاص آخر .. أو فكرة تُنقذهممن سراب الأوهام و إغواء الأوثان ..
سيعود ذاك الرجل مزهُوّا بآنتصاراته الغريزيّة .. مفكّرا في صيدٍ جديد .. حتى يصل به الأمر إلى عدم الإكتفاء بأيّ أنثى - و لا زوجتهطبعا - .. فلكلّ أنثى مذاقٌ آخر .. و الحياة تفيضُ بممكنات صيدٍ دائمة .. و ستعود تلك الأنثى سعيدة بالهدايا .. بالجلسات الراقية .. بتلك المتعة العابرة .. ثمّ ستتورّط حين تنهار ممكنات الصدّ لديها .. فقد آنهارت حصونها .. و تحوّلت دون وعي ربما إلى مجرّد بضاعةمغرية في سوق العولمة .. غزالٌ شاردة أمام بنادق الصيّادين .. وستنتهي إلى العجز على الإكتفاء بقصّة واحدة - و لو مع زوجها - .. فكلّ رجل سيترك فيها أيضا آهتزازاتٌ ما .. جوع جديد .. ونداءات حارقة صوب أفقٍ مشبوه من عدميّة الشهوة ..
ثمّ سيأتي الأبناء .. و الأحفاد .. حيث ستترسّخ الفكرة جيلا بعدجيل : نحن مجرّد آلات بشريّة في معبد الأوثان الأخيرة .. المال والجنس ..
كانت الرأسماليّة في بداياتها تقول : " دعهُ يعمل ، دعهُ يمرّ " .. أمّا العولمة اليوم بوصفها المرحلة القصوى للرأسماليّة فأسمعُهاتقول : " دعهُ يتمتّع .. دعهُ يلهث .. دعهُ يغرق " ..
و أمّا نحن .. الغرباء جدا .. أعني جدّا و جدّا .. الرّافضين .. المتمرّدين .. الّذين لا نزال نؤمن بالله .. بالحبّ .. بالأفكار .. بالقيم .. - رغم أخطائنا طبعا - .. فماذا يمكننا أن نفعل ؟؟ ما مصيرنا فيهذا العالم الّذي لا يلائمنا و يسخرُ منّا ؟؟
طبعا .. سنكون حتما و ضمن حقيقة الروح الخالدة .. الفائزين فينهاية السباق